خرج من
البطريركية
ليدخلَ
الطوباويَّـة
بقلم/سجعان القزي
أن
يَستقيلَ مسؤولٌ
عظيم، أكان
دينياً أم
مدنياً، لا
يعني أنه اعتزل،
وأن يُنتخبَ مسؤولٌ
ضعيف لا يعني
أنه يَحكم.
المنصَبُ ليس
مرادفاً
دائماً
للوجود
والدور والثأثير.
إن خط
المقاومة العنيدة
الذي انتهجه
البطريرك
صفير سيبقى
معيار الحكم
على البطريرك
الجديد.
نقولها منذ
الآن لئلا
يُلام الشعب إنْ ثار
غداً.
قليلون
هم الذين
يَلِجون
الأزليةَ
أحياء. إنها
أعجوبتُه
الأولى.
البطريرك مار نصرالله
بطرس صفير خرج
من
البطريركية
ليدخلَ
الطوباويَّـة.
إنه لم
يستقِل، بل
ترقَّى، صعِد
إلى السماء
وهو لم يَزل
في بكركي.
ورغم
التصاقها
بالأرض، بكركي
ليست بعيدة عن
السماء. ومن
يستكثر على
البطريركية
المارونية مجد
لبنان، فمجد
السماء
يكفيها.
والباقي تحصيل
حاصل.
كان لا
بد للبطريرك
صفير من أن
يرتاحَ من
عناء النضال
والمقاومة،
لا من ثقلِ
سنواتِ
التسعين فقط.
كانت سنواتُ
عهدِه الخمسُ والعشرون
عصيبةً
وعصبية،
مضطربة
ودموية،
قاهرة ومنهِكة.
كان البطريرك
صفير
بطريركاً وقائدَ
مقاومةٍ
وزعيماً
وطنياً. لم
يشأ، بداية،
أن يَحجُب دور
السياسيين
المسيحيين،
مع أن البطريركية
المارونية
أُنشِئت في
أواخر القرن التاسع
لتقودَ
شعبَها
وتحميه. لكن
التغييبَ القسريَّ
للقادةِ
الموارنةِ
وانقساماتهم
أناطا، منذ
أوائل
تسعينات
القرن
الماضي، بسيد بكركي
مسؤوليةَ
القيادةِ
الوطنية
فتحمَّـلها
من دون تأفف
فـألِفَها .
بآيات
الإنجيل واجه
البطريركُ
صفير ألويةَ الاحتلال
والنظامَ
الأمني. بفَـقْرةٍ
في "قَـفْـلةِ"
عظاته جيَّش
الشعب
وأنَّـب
الرؤساءَ
والحكّام
وسائرَ أدوات
الوصاية.
بعطرِ البخور
أبعد دخانَ
الفساد. بيده
"المنزوعةِ
السلاح" غفر
للمتطاولين
على شخصه
والصرح
والمقام،
وبمذكراته
الباكرةِ كشفَ
المستور.
بعد
اعتلائه
سدَّة
البطريركية
بسنوات قليلة،
تبين له أن
الدول
الغربية،
وعلى رأسها
الولايات
المتحدة
الأميركية،
سلَّمت لبنان
إلى أعدائه
مرحلياً،
وغسلت
أياديها من مسيحيي
لبنان ومن
لبنان كدولة
حرة ومستقلة. تجاه
الحال، التزم
البطريرك
صفير
المقاومة
السلمية،
الصابرة،
الثابتة والعنيدة،
وتحـفَّـظ عن
المقاومة
العسكرية.
اضطر
البطريرك إلى
التكيف مع
وقائع مؤلمة
أحياناً من
دون التخلي
عن خريطة طريق
التحرير
والأهداف
السامية. لم
يُرض أسلوبُه
كلَّ الناس،
لاسيما حين
تَـقـبَّـل
اتفاقَ
الطائف الذي
قلّص صلاحيات
رئاسة
الجمهورية
ونصّ على هوية
لبنان
العربية، وحين
استقبل
النوابَ
الذين
انـتُـخبوا
بأصوات شحيحة
في
الانتخابات
النيابية سنة
1992، وكان هو
الداعي الأول
إلى مقاطعتها.
في
الواقع، وضع
البطريرك صفير
لمقاومته
حدوداً
ومهلاً.
الحدود هي
الأخذ بالاعتبار
واقع الوضع
اللبناني
والمجتمع المسيحي
وموازين
القوى. لم يكن
باستطاعة البطريرك
تجاهل السقوط
الماروني بعد
صراعات القوى
المارونية
وإضاعة الفرص
وحملات التهجير
والهجرة، ولا
تجاهل
استتباب نظام
وصاية عسكري. ولم يكن
باستطاعته،
خصوصاً، تخطي
الإحباط المسيحي،
فتعايش معه
إلى أن خرج
المسيحيون
نسبياً من
إحباطهم في 14
آذار سنة 2005. أما
المهل
الزمنية، فهي
حرص البطريرك
على جعل تطور
المقاومة
اللبنانية
وتصاعدها
يواكب التغييرات
السياسية
والعسكرية
الجارية في
لبنان والشرق
الأوسط. ولم
يتردد
البطريرك في
الإصغاء إلى
نصائح كبار المسؤولين
الدوليين حيث
اختار منها
المناسب
وأهمل المُـغْرِضَ
منها.
عدا
الإيمان بربه
وبشعبه
وبحقه، استند
البطريرك
صفير في
مقاومته إلى
القرار
الدولي رقم 3246
الصادر عن
الجمعية
العامة للأمم
المتحدة سنة 1974
وهو يعترف بحق
الشعوب
بمقاومة
الاحتلال،
وتقوّى بحق
الشعوب في
تقرير المصير
وهو بندٌ مدرج
إلى جانب حقوق
الأقليات في
الأمم المتحدة
منذ ربيع 1993.
هكذا حافظ على
الاحتياط المقاوِم
للحظة
التاريخية،
فأتت، ثم
طارت، ثم
عادت... ومن
يجدْها اليوم
فليتصل
بالبطريرك المنتظَر.
مع أن
البطريركية
حالةٌ مستمرة
منذ القرن
السابع،
والمارونيةَ
موجودةٌ منذ
القرن الرابع
(توفي ما
مارون نحو سنة
410)، ومع أني من
مؤيدي تداول
السلطة حسب
القوانين الكنسية
الجديدة، لا
أخفي حزني على
استقالة البطريرك
صفير.
أحببناه،
ارتحنا إليه،
ووثقنا به.
لم يجازف
بنا، لم يضحك
علينا، لم
يستغل طيبتا،
لم يساوم على
شهدائنا، ولم
يقايض على
استقلالنا. لم يخضع
لقريب أو
بعيد، لقوي أو
متجبر،
لم تلوثه
السياسة
مادياً، ولم
تبعده عن المسبحة.
لم يسكر
بمجد الأرض
وبهاء
الانتصار،
ولم يستوحِ
مواقفه سوى من
مصلحة
المسيحيين
ولبنان والإنسان.
وجدتُ،
وقد راجعتُ
سِـيَـرَ
البطاركةِ
الموارنة
الخمسة
والسبعين
قـبْـلَه، أن
البطريرك
صفير هو أحد
أهم من بلغوا
هذا المنصَب
المميَّـز في
بلاد الشرق
وإنطاكية.
وبعد
استقالته،
وبمناسبة
يوبيله الفضي
بطريركاً،
ستبقى من هذا
البطريرك
الكبير بصمات
وإنجازات
أبرزها:
البطريرك
الفاضل،
العفيف
والتقي.
البطريرك
الذي كشف
السياسيين.
البطريرك
الذي تعرّض
للاعتداء،
فهجر بكركي
مؤقتاً، لا
بسبب
العثمانيين
والمماليك
والعباسيين
والأمويين،
بل بسبب هوس
مجموعات
مارونية.
البطريرك
الذي دعا إلى
مقاطعة
الانتخابات سنة
1992 حرصاً على
عدم تهميش
الدور
المسيحي، علماً
أن ضعف دور
المارونية
السياسية في
الدولة اللبنانية
ازداد بعد
الطائف.
البطريرك
الذي قال: لا
لسوريا،
واستقال من
دون أن
يزورها.
البطريرك
الذي أجرى مصالحة
الجبل بين
المسيحيين والدروز
سنة 2001.
البطريرك
الذي أصدر
البلاغ رقم
واحد لتحرير
لبنان وقاد
المقاومة
السلمية.
البطريرك
الذي استقبل
البابا يوحنا
بولس الثاني.
البطريرك
الذي رعى
مبادرة
الفاتيكان
بعقد السينودوس
من أجل لبنان
في 11 أيار سنة 1997.
البطريرك
الذي عقد
المجمع
الكنسي
الماروني في
حزيران 2003 بعد
مجمع سنة 1736.
البطريرك
الذي فتح
الباب أمام
العلمانيين للمشاركة
في تطوير
الكنيسة
المارونية.
البطريرك
الذي نظّم
الأبرشيات
وشجّع
المؤسسات
الكنسية على
الاهتمام
بالشأن
الاجتماعي.
لقد
حاول
البطريرك أن
يَـقيَ
المسيحيين،
وبخاصة
الموارنةُ
منهم، الشرَّ
الأعظم؛ فعمل على
تمريرِ أصعب
مرحلة بأقل
ضرر ممكن
بانتظار
مستقبل أفضل. لذا
يستطيع
البطريرك أن
يستقيل مرتاح
الضمير تجاه
ما قام به
من أجل لبنان.
أما
الكنيسة
المارونية،
فما عليها إلا
أن تؤمن
بذاتها وتدرك
أن ما مرّ
عليها منذ
وجودها
أعطاها مناعة البقاء.
لقد نشأت
المارونية
بعد المسيحية بــ 400 سنة،
وقبل الإسلام بــ 200 سنة.
لن
نودِّعك
يا غبطة
البطريرك
صفير، ستبقى
معنا، مرجعاً وملاذاً.
استقالتك
حرية لك
ومسؤولية علينا.
05
آذار/11