الرقم
القياسي في
إضاعة تقرير
المصير
بقلم/سجعان قزي
أربع
ثوابت رافقت
الوجود
اللبناني منذ
عصور قديمة:
حصول
اللبنانيين،
ولو أنهم
أقليات، على
حقِّ تقرير
المصير في
المنعطفاتِ
التاريخية،
سوءُ إدارتهم
هذا الحق رغم
قسوةِ التجارب،
تنامي
انقساماتهم
الطائفية رغم
المصالحات
التاريخية،
والتدخّـلُ
الغريب في
شؤونهم رغم
حصولهم على
الاستقلال.
إذاً، قبل أن
يندُبَ
اللبنانيون
حظّهم أحرى
بهم أن يلوموا
أنفسهم.
حين
كان هذا الشرق
تحت احتلال
عثماني كامل،
تمـيَّـز
لبنانـيّو
الجبل بحكم
ذاتي، ولعب الموارنة
دوراً
مركزياً في
الحفاظ على
تمايز الجبل
من خلال:
انكبابهم على
العلم،
تعاونهم مع الدروز،
مشاركتهم
القيادية
والعددية في
جيش الإمارة،
تحالفهم مع
الغرب،
وتـبنّـيهم
قضية مسيحيي
الشرق. لقد
وَفَّـر
الموارنةُ
حماية الإمارتين
المعنية
والشهابية من
فخر الدين المعني
الكبير حتى
بشير الشهابي
الأخير (1590 ـ 1842).
وما كان يخسره
الأمراء في
معاركهم
العسكرية ضد
العثمانيين،
كان الموارنة
يستعيدونه
بالسياسة والديبلوماسية
بمساعدة
أوروبا
وكنيسة روما.
أسطعُ
برهانين على
دور الموارنة
في حماية الإمارة:
الأول، قيام
المعنـيّـين الدروز
فالشهابيين
السُـنَّـة
باعتناق
المارونـيَّـةَ
تدريجاً.
والآخر خضوع
الإمارة
الدرزية
إبَّـان الحكم
التنوخي
ـ البحتري (1519/763)
للخلافة
الإسلامية
كلياً بفعل غياب
الدور
الماروني
آنذاك. غير أن
تلك الحقيقة
التاريخية
شابها أن
الموارنة،
الذين ناضلوا
من أجل
استقلالٍ
ذاتي لإمارة
الجبل (الشوف
عُرفاً)، لم
يُـفلحوا في
ضَمِّ جبل
لبنان الشمالي
إليها بشكل
دائم، مع أنه
منطلقُ
إشعاعهم
اللبناني
ومقرُّ
بطاركتهم
ومركز
مُـقَـدِّميهم
ومنبِتُ
أديرتهم
وكنائسهم
الأولى.
علاوة
على فرصٍ
مَوضَعية
عديدة كانت
سانحة للخروج من
أزمة أو حرب
أو وصاية وأضاعها
اللبنانيون،
حَـفَل
التاريخ
بمحطات كبرى
ثَـبَّـتت
الحرصَ على
وجود لبنان
ممـيَّـزاً
في هذا الشرق،
وأبرزها:
سنة 1516
انتصر
العثمانيون
على
المماليك،
فلم يُـلغوا
إمارة الجبل
ولم
يعـيِّـنوا
والياً عثمانياً
يحكمها
مباشرة كسائر
المناطق
المحيطة بها،
بل جدَّدوا
حكم
المعنـيِّـين.
سنة
1634 هزم
العثمانيون
فخر الدين
الثاني الكبير
واقتادوه إلى
الآستانة ثم
قتلوه،
فاستمرت
إمارة الجبل
رغم قضم أقضية
كان فخر الدين
قد ضمَّـها
إليها.
سنة
1697 توفي الأمير
أحمد، آخر
الأمراء
المعنيين دون
عَقِب، فلم
يُـعيِّـن
العثمانيون
والياً على
الإمارة، بل
قبِلوا
باتفاقِ
عائلات الشوف
على انتقال
الحكم إلى آل
شهاب (الأمير
بشير بن حسين
الشهابي ابن
شقيقة الأمير
أحمد المعني).
سنة
1942 وقعت مجازر
الجبل بين الدروز
والموارنة
وسقطت
الإمارة
الشهابية،
ففضَّل أهل
الجبل
التقسيم (القائمقاميتين)
على حكم عثماني
مباشر (عمر
باشا
النمساوي).
سنة
1861 فشلت تجربة القائمقاميتين
في وضع حد
للصراع
الدموي
المدبَّر بين
الموارنة والدروز،
فسار
اللبنانيون
في نظام المتصرفية
الذي أعاد
توحيد جبل
لبنان ومحيطه
رغم تحفظ العثمانيين
عنه (طالب
الشيعة
الانضمام إلى المتصرفية
لا إلى ولايتي
صيدا والشام).
سنة
1920 قامت أوروبا
بحصر إرث
السلطنة
العثمانية، فاستحصل
الموارنة على
دولة لبنان
الكبير رغم أن
مشروع سايكس
ـ بيكو
هدف أساساً
توحيدَ سوريا
ولبنان تحت
سلطة فرنسية
(أبلغ الشيعة
بعثة كينغ
ـ كراين
الدولية
التزامَ دولة
لبنان الكبير
ورفضَ الانضمام
إلى الشريف
الحسين
السُنـيّـة
في سوريا1).
سنة
1943 ترنّحت سيطرة
"فرنسا
الحرة" أمام
الاجتياح
النازي، فاستغل
اللبنانيون
الفرصة
لانتزاع
الاستقلال ووضعوا
حداً
للانتداب
الفرنسي.
سنة
1982 كان لبنان
تحت سلطة
فلسطينية /
سورية، باستثناء
قلب المناطق
المسيحية،
فغزت إسرائيل
البلاد لضرب
البنية
العسكرية الفلسطينية
ولدفع سوريا
إلى سحب
جيشها،
فتدخّـل
العالم الحر،
وبخاصة
أميركا،
لاحتواء الدور
الإسرائيلي
وتنفيذ مفعول
الحرب: دعم
مشروع قيام
دولة لبنانية
حرة قوية
ومركزية،
وتوقيع اتفاق
سلام مع
إسرائيل (حظي
اتفاق 17 أيار
سنة 1983 بتأييد
كل الطوائف
اللبنانية
ومجلس النواب
اللبناني
ومجلس
الوزراء
والدول
العربية ما عدا
سوريا).
سنة
2005 انتفض
اللبنانيون
بعد اغتيال
رفيق الحريري،
فعمدت
الولايات
المتحدة
الأميركية، عبر
الأمم
المتحدة، إلى
إجبار سوريا
على الانسحاب
العسكري
ليستعيد
اللبنانيون
سيادتهم
واستقلالهم
(انضم
السُنَّـةُ
إلى مشروع
"لبنان
أولاً" بعد
خمس وثمانين
سنة على قيام
دولة لبنان).
من
كل ذلك نستنتج
ما يلي:
انتزع
اللبنانيون
حقّ تقرير
المصير زمنَ
كان هذا
المفهوم
مجهولاًً،
وفي غياب أي
مرجعية إقليمية
أو دولية ترعى
شؤون الأمم
والشعوب (عصبة
الأمم والأمم
المتحدة
تأسّستا
لاحقاً، في
النصف الأول
من القرن
العشرين).
نال
اللبنانيون
بشكل أو بآخر
حقّ تقرير
المصير من
العثمانيين
والأوروبيين،
بينما أنكره
عليهم العرب
إن إبّـان
الاحتلال
القديم
(الخلافة
الإسلامية)،
أو الاحتلال
الجديد
(سوريا).
اختبر
اللبنانيون
عبر تاريخهم
أشكالاً
دستورية شتى وكيانات
جغرافية
مختلفة
وصيَـغَ حياة
مشتركة
متنوعة،
فعرفوا لبنان
المصغَّر مع
أمير وطني
(إمارة
الجبل)،
والجبل
المقسَّم مع قائمقام
طائفي (القائمقاميتين)،
والجبل
الموحَّد مع
حاكم غريب (المتصرفية)،
ولبنان
الكبير
المحتَّل (الانتداب
الفرنسي)،
ولبنان
الكبير
المستقل (الميثاق
الوطني).
عاش
اللبنانيون
هذه
"المِروحة"
من الكيانات
من دون أن
تكون لهم
كلمةُ الفصل
في اختيار
البعض منها،
لكنهم
ارتَـضوها
لأنها ضمنت
لهم حكماً
ذاتياً
واستقلالاً
نسبياً،
ووفّـرت لهم الأمن
والحرية بنسب
مختلفة. ومُـذّاك،
ظهر أن احترام
الكيانية
اللبنانية
ليس مرتبطاً
حكماً بقوة
لبنان العسكرية.
عانى
اللبنانيون
كلَّ أصناف
الحروب (من
الاقتتال
الأهلي إلى
مقاومة
الاحتلال)
وكلَّ صنوف
التدخل
الأجنبي (من
الوصاية إلى
الاحتلال) وكل
نماذج الأمن
(من الأمن
الذاتي إلى
الأمن الدولي)
وكل أنواع
الأنظمة (من
الإقطاعية
إلى الديمقراطية)
وكل أشكال
الحياة
المشتركة (من
التقسيم إلى
الوحدة).
نشر
اللبنانيون مفهوم
الحرية
والاستقلال
في محيطهم
ولَـقَّـنوه للشعوب
العربية من
المحيط إلى
الخليج. ولما
أرادوا
الانكفاء إلى الــ 10452
كلم²، استجارت
بهم هذه
الشعوب: لماذا
تتركوني؟ بل
لمن تتركوني؟
بعد
كل هذه
المراحل، وقد
أعطى العالم
عبرها براهين
عديدة وحاسمة
على وجوب بقاء
لبنان كياناً
قائماً
بذاته، يجدر
باللبنانيين
أن يصونوا مكتسباتهم
الكيانية
وحقوقهم
الاستقلالية.
لا يجوز في ظل
شرعة الأمم
المتحدة وفي
كنف شرعةِ
حقوق الإنسان
أن يَـفقد
اللبنانيون
ما أنجزوه قبل
400 سنة من وضع
هاتين الشرعتين.
لا يجوز أن
يصبح
الاستقلال
اللبناني
وميثاق الحياة
المشتركة أثرين
تاريخـيّـين
نزورهما في
المتحف
الوطني. إن مختلف
التجارب التي
مر بها
اللبنانيون
تتيح لهم، بل
تفرض عليهم أن
يختاروا أفضل
كيان، وأفضل
نظام، وأفضل
دستور، وأفضل
صيغة حياة،
وأفضل علاقات
خارجية نِدّية.
الواقع
الحالي لا
يلتقي مع هذه
الآمال،
فاللبنانيون
يتبارون في
إعطاء العالم
أسوأ صورة
عنهم، وهم على
وشك أن
يضـيّـعوا
إنجازات
التاريخ الغابر
والقريب. لا
يُـقدِّر
اللبنانيون
نِعمَهم
فيتخاصمون ثم
يتقاتلون من
أجل مكاسب
سياسية أو
دستورية
تافهة، وكأن
مجد الإنسان
والطوائف
صلاحيةٌ في
دستور أو
منصبٌ في حكومة
أو قوةُ أمر
واقع. وحين
تشتد
الصعوبات
يُـلقي
اللبنانيون
مسؤولية
مآسيهم على
العالم الخارجي،
ويُـنَـصِّبون
المـتَّـهَمين
قضاةً عليهم.
إن
تَـوَسَّطوا
يـتَّهمونهم
بالتدخُّـل
وإن اعتذروا
اتهموهم بالتخلي
عن لبنان. اللبنانيون
ناشدوا
العالمَ أن
يحرِّرهم من
العثماني ثم من
الفرنسي ثم من
الفلسطيني ثم
من السوري ثم
من
الإسرائيلي
ثم من
الإيراني، ثم
من الجميع معاً.
ولما
"انسحب"
الجميع،
يَرجونه اليوم
أن يخلِّصهم
من بعضهم
البعض، من 8
آذار ومن 14
آذار ومن سلاح
حزب الله.
وماذا لو
خلَّص العالمُ
اللبنانيين
من أنفسهم؟
اللبنانيون
يقدِّمون
للعالم
إبداعهم ونبوغهم
ويعطون
وطنهم
خلافاتهم
وآفاتهم.
آخر
موقف جِدّي
وقوي أبداه
العالم تجاه
لبنان كان
سنتي 2004/2005، إذ
أستصدر
القرارات
العربية
والدولية وأنشأ
المحكمة
الدولية
وسحبَ الجيش
السوري، فكانت
كلها شبكةَ
حماية للشعب
والدولة
والكيان
والسيادة
والاستقلال. غير أن
اللبنانيين
أضاعوا مرة
أخرى الفرصة
التاريخية:
منهم من
تمـرَّد
عليها (8 آذار)،
ومنهم من
اتَّـكل
عليها (14 آذار)،
ومنهم من ماطل
بتطبيقها
(الدولة). وها
هو العالم،
بعد خمس سنوات
على دعمه
التام سيادة
لبنان
واستقلاله،
يرفع يديه
ويعود يحاور أطرافاً
عربية
وإقليمية
نافذة في
لبنان. لقد
مجّ العالم
مطالب
اللبنانيين
ويكاد يفقد الأمل
من قدرتهم على
التعايش
السلمي
المركزي وتخطي
مشاكلهم بدون
تدخل خارجي.
الواقع
أن
اللبنانيين
أمام خيارين
لا ثالث لهما:
أن يتقاتلوا
حتى آخر الدهر
فيعودوا تحت
وصاية ما، أو
أن يجلسوا
معاً بنـيّـة
طيبة وإرادة
وتصميم لبناء
دولة
فيحافظوا على
استقلالهم. إن
وحدة الأمة
ليست مساحة
جغرافية فقط،
بل إيمان بمشروع
واحد. وعوض
أن يذهب
اللبنانيون
بعيداً
ليبحثوا عن
حلول،
فليتصفّحوا
كتاب تجاربهم
ويختاروا
منها الأنسب
عبر الإجابة
عن أسئلة
مصيرية بشكل
مباشر وصريح:
على
صعيد الكيان:
أيريدون
الإمارة، أم المتصرفية،
أم لبنان
الكبير؟
على
صعيد الهوية: أيريدون
الإسلامية،
أم العربية،
أم السورية،
أم
اللبنانية،
أم غيرها؟
على
صعيد شكل
الدولة
الدستوري:
أيريدون المركزية،
أم
اللامركزية،
أم
الفدرالية،
أم الكونفدرالية؟
على
صعيد صيغة
الحياة
المشتركة: أيريدون
الميثاق
الوطني، أم
اتفاق الطائف
أو غيرهما؟
على
صعيد السيادة
والاستقلال: أيريدون حكماً
حراً، أم
حكماً
"مخصَّـباً"
بوصاية؟
على
صعيد الأمن:
أيريدون أمن
الدولة، أم
الأمن الذاتي،
أم الأمن
الوطني، أم
الأمن
المستعار، أم
الأمن
الشرعي، أم
أمن
الميليشيات؟
على
صعيد دور
لبنان: أيريدون
لبنان ساحة
صراع
الآخرين، أم
مساحة سلام
محايدة؟
في
ضوء الأجوبة يـتَّـضح
المصير
اللبناني
الجديد. إما
وحدة حتى
العناق وإما
انفصال من دون
خناق، فسلام
الإنسان
اللبناني أهم
من أي قيمة
أخرى. إن
مفهوم الوحدة
صار خطراً على
اللبنانيين
لأنه
"يُحِلِّـل"
كل حَرام، وها
هم اليوم
يعملون لا
لتحقيق
الوحدة بل
للسيطرة على
الحكم، وسيخسرون
الاثنين معاً.
حالياً،
الدول
الإقليمية
والكبرى تحكم
لبنان
الكبير،
الدولة
اللبنانية
تحكم المتصرفية،
والطوائف
والمذاهب
تحكم
الإمارات،
والإمارات
منتشرة قائمقاميات
على مدى مساحة
لبنان: هنا
أرض شيعية:
"حيّوا على
السلاح". هناك
أرض سنية:
"حيّوا على
البحبوحة". هنالك
أرض درزية:
"حيّوا على
الحاكم بأمر
الله". وهنا
وهناك وهنالك أرض
مسيحية
"حيّوا على
مجد لبنان"... إذا
وجدتموه.
المصدر :
النهار
18
تشرين الأول/09