سياسة الرهائن

بقلم/الياس الزغبي

السبت 2 تشرين الأول 2010

 

وتدور دورة جيل كامل، ويعود لبنان ساحة رهائن.قبل ثلث قرن، حوّلوا لبنان الى ميدان لخطف الرهائن، من الأجانب، سفراء ودبلوماسيّين وباحثين وصحافيين وسيّاحا. ساوموا عليهم العالم، فمنهم من مات أو صُفّي، ومنهم من أُفرج عنه مُنهكا بعد سنوات، بأثمان كثيرة. أمّا الخاطفون فما بدّلوا تبديلا. وحاصرت الحرب اللبنانيّين كرهائن، وحصدت نصفهم، قتلى وجرحى ومعوّقين ومفقودين ومهجّرين ومهاجرين.

 

وشاءت لعبة الأمم أن يولد "حزب الله" في غمرة تلك المرحلة، ومن رحمها، فتأسّس في مناخ الرهائن والرهانات، وشارك فيها منذ صغره. تكوّنت مهمّته من ضغطين: ضغط على الخارج بالخطف والتهديد لرعايا العالم وقواه، وضغط على الداخل بالرهان على القوّة المدجّجة تحت عنوان "المقاومة".

 

ومع مرّ الزمن، ومُرّه، تأصّلت ذهنيّة الرهائن والرهان في عقيدة "حزب الله" وسلوكه. وهو اليوم، بحجّة القرار الاتّهامي والمحكمة الدوليّة، يربط رهانه بمشروع خارجي (إيران على المتوسّط)، ويتّخذ رهائنه من اللبنانيّين، ومن قوّات الأمم المتحدة. وهو، بدوره، رهينة رهانه.

معادلة مثيرة: رهينة تسترهن أُخرى، وضحيّة تفترس ضحيّة، بين طهران وبيروت. تماما كالمعادلة القاتلة، منذ الأربعينات الى اليوم، بين برلين وفلسطين.

 

إذا كان "حزب الله" يريد فعلا مواجهة المحكمة، فلماذا لا يواجهها في عقر دارها، في لاهاي، امّا بوسائلها: القانون والحجّة والأدلّة والقرائن وشهود الحق، وامّا بوسائله: العمل الثوري والقوّة والعنف المسلّح؟ ولم يكن الكلام عن تشكيله فرقة كوموندس لتطويق المحكمة واحتلالها، من أجل الحضّ والتحريض على عمل ارهابي، بل من باب التشجيع على اعتماد السبل القانونيّة، والسخرية الباكية السوداء من الاعتداد بالقوّة العارية التي تقتل صاحبها قبل سواه.

 

ولكنّ المفارقة المؤلمة أنّ "حزب الله"، الرافض للأساليب القانونيّة تحت ستار أنّ المحكمة اسرائيليّة، لا يفكّر أيضا في الانتقام المسلّح منها، لادراكه عجزه عن الوصول اليها مهما تعملقت ترسانته واندفع جهاديّوه، بل يرتدّ على أهله وشركائه في الوطن، جاعلا منهم رهائن بريئة في وجه المحكمة والمجتمع الدولي، ويحشرهم في دائرة الرعب المذهبي، ويضع الدولة والمؤسّسات في مهبّ العاصفة، مثل خاطف طائرة يهدّد بتصفية ركّابها، أو تفجيرها على رأسه ورؤوسهم، اذا لم تُلبّ مطالبه. 

 

إنّه يضغط على الجرح هنا، في بيروت، كي يُسمع صراخ الوجع، هناك، في لاهاي. لكنّ الموجوع لبناني، وجروح اللبنانيّين تمضّ، سواء منهم الذين مع الضاغط أو ضدّه، أمّا قاعات المحكمة وأعصاب أهلها فباردة برودة القانون والعدالة، لا تعرف السياسة ولا تأخذ بالحسابات المذهبيّة اللبنانيّة، مغمضة العينين أمام ميزان الحقّ مثل "تاميس" (آلهة العدل عند الاغريق).   

 

الخوف من حرب "حزب الله" يُقلق اللبنانيّين وليس أهل الغرب والشرق، والانتظار الثقيل يخيّم على أحياء بيروت والمناطق، وليس في شوارع لاهاي وأروقة المحكمة ومدن أوروبا وأميركا، والتهديد بالفتنة يأكل من صحن الآمنين الساعين يوميا الى رزقهم، فهل في العالم كلّه انسان "موعود" بالحرب بين يوم وآخر مثل اللبناني، وهل في الدول ما يُشبه لبنان، بجيشين وقرارين ودولتين، و... شعبين؟

 

أيّ ذنب اقترفه اللبنانيون كي يهدّدهم هذا الحزب في يومهم وغدهم، أهو ذنب طلب الحقيقة والعدالة، أم ذنب التوق الى السلام والحريّة والاستقلال وبناء الدولة، أم ذنب الحياة كسائر خلق الله؟ ومن أعطاه حق معاقبة دموعهم على شهدائهم، ومصادرة آلامهم وآمالهم وصلواتهم؟ ومن فوّضه سلطة استنساب "الشهود الزور" وفرضهم على المحكمة أو فرض المحكمة عليهم، وقطع العصب المالي عنها، واستباق قراراتها، ورميها بما لذّ له وطاب من رذائل وقبائح؟

 

إذا كان مذعورا من العدالة، فلا يحق له إسقاط ذعره على الناس والأحزاب والمسؤولين والمؤسّسات. وإذا كان حريصا على صورته التماميّة وسمعته الطهرانيّة، فإنّ انغماسه في الفتنة يقضي على ما تبقّى وسلم منهما بعد 7 أيّار وسجد وعين الرمّانه وبرج أبو حيدر والمطار، وبعد كل نوبة تهديد ووعيد. والثابت أنّه لم يعد حريصا عليهما، فقد أوعز الى أقلامه قبل أيّام أن تُعلن زهده بصورته وسمعته، مفضّلا التزام نظرية داروين "البقاء للأقوى والأصلح"، ومعادلة أيّار: "السلاح يحمي السلاح".

 

أخطر ما في نهج "حزب الله" وأدائه هو استعادته سياسة الرهائن في الثمانينات. وأسوأ ما في هذه السياسة المستعادة أنّه يطوّرها من خطف أشخاص الى خطف دولة. ومن خطف الأجانب إلى خطف اللبنانيّين بالجملة. دولة وشعب مخطوفان. الخاطف مخطوف والراهن مرهون. جميعهم، جميعنا مساكين.