جنرال "مسيحي"

بقلم/الياس الزغبي

 

ليس عيبا أن يعلن أيّ شخص، سواء كان برتبة جنرال أو ما فوق أو ما تحت، ايمانه الروحي وانتماءه الديني، و"علمانيّة" خاصّة به، يفسّرها على هواه، ويستخدمها في المناسبات.

 

وليس غريبا، في السياسة، أن يقتنص أحدهم فرصة حدث كنسي فاتيكاني، كي يسابق صانعي الحدث وأهله، ويكيل لهم الارشادات والتوجيه، ويدعوهم الى مائدتهم ليأكلوا من خبزهم ويحتسوا نبيذهم.

 

هذا يُسمّى، في التقليد السياسي اللبناني، "شطارة" أو "عراضة" أو "ابتزاز" أو "انتهاز"... أو استخدام وتوظيف، في ألطف التعابير. ولا غرابة في ذلك، لأنّ تهافت الأخلاق السياسيّة بلغ أوجه بفعل الخطاب السياسي "النوعي" العوني، في السنوات الخمس الأخيرة.

 

لكنّ المثير أنّ صاحب الارشاد والتوجيه و"الرؤية المشرقيّة"، يعلن ما لا يُضمر، ويبشّر بما لا يعتقد، ويفعل عكس ما يقول، على عادته منذ ربع قرن.

 

ليس تفصيلا أو صدفة، أن يبدأ الانحدار المسيحي في لبنان منذ ربع قرن، ومنه الى المشرق وليس العكس  لكونه الميتروبول، مع ظهور هذا "المبشّر" على المسرح السياسي، و"فضله" الواضح على المسيحيّين، و "ازدهار" وجودهم في لبنان والمشرق.

 

لم تكن "الحرب الكبرى" بين المسيحيّين سنة 1990 أخطر ابداعاته وارتكاباته، على فظاعتها، بل حالة الانهدام أو الشرخ النفسي والعائلي الذي حفرته في عمق وجدانهم، والحقد الذي أورثته لجيل ما بعد الحرب، والمتفاعل باستمرار في القلوب والأذهان، وبين مدنيّين وعسكريّين.

 

ولا يهدأ زارع الحقد في تعميقه و"تأصيله" في البيت الواحد، وفي جيل المدارس والجامعات، وفي بثّ الشكوك حول المرجعيّات الكنسية ودقّ الأسافين في مؤسساتها، واذا قصّر شخصيا، فوكلاؤه جاهزون، وان تلكّأوا، فهوائيّاته مستنفرة لضخّ السموم، وفتح الجروح، ونبش الأحقاد والقبور.

 

ولم تهدأ، في المقابل، ارادة الاحتواء والترشيد والمصالحة، وقد توّجتها أمس الدعوة الى الجيل المغرّر به، للتروّي والتبصّر واستلهام مبادئ التأسيس وشراكة القضيّة والنضال في ليالي القمع والقهر.

 

والأشدّ اثارة أن ينبري صاحب الرسالة التبشيريّة الى رفض معادلة الأكثريّات والأقليّات في المشرق، غامزا من قناة القائلين بها والكرسي الرسولي، بينما هو الوحيد المتورّط في لعبتها والغائص في رمالها المتحرّكة.

 

أليس هو من وقّع حلف أقلّيات تحت مسمّى "التفاهم" في 6 شباط 2006، وجرّ أنصاره الى محور أقلّوي بين الضاحية ودمشق وطهران، وفي عمق المشهد الأقلّية الاسرائيليّة؟

وفي مواجهة من قام هذا التحالف، أليس في وجه أكثريّة ذات امتداد عربي واسلامي واسع؟

 

انّ أفضل وصفة لاضعاف المسيحيّين وتقليص وجودهم ودورهم هي زجّهم في حلف أقلّيات، وقد دفعوا ثمنه مرّتين: الأولى مع نظام دمشق سنة 1976، والثانية سنة 1982 مع اسرائيل، فهل يستمر المرسل في تجربته الثالثة، الثابتة هذه المرّة، للقضاء عليهم؟

 

لقد حانت لحظة اليقظة عند الباقين من أتباعه، وبداية الوعي تبدأ من ادراك التناقض بين قوله وفعله، ثمّ العودة من الهجرة القسريّة والغربة التي دفعهم اليها في تحالف أقلّيات بنهج انتحاري، يأكل بعضها بعضا اذا لم تجد ما تأكله، تمهيدا لانخراطهم من جديد في تحالف الأولويّات (سيادة، حرّية، استقلال، دولة، عدالة) الذي كان لهم شرف المشاركة الفعّالة في تأسيسه في ميدان 14 آذار 2005. والزمن الآتي هو لهذا النوع من التحالفات والتفاهمات التي تبني دولا، وليس للتحالفات و"التفاهمات" المفخّخة بعبوات التصادم مع الآخرين وذهنيّة الانقلاب عليهم، أكثريّة كانوا أو أقليّة.

 

يكفي المشهد الأخير في مطار بيروت كي يستيقظ هؤلاء من سباتهم الخماسي: ستّة نوّاب يمثّلونهم يصطفّون وراء قامعهم ومذلّهم في 7 و9 آب 2001، وما قبل وما بعد، ضحايا تصفّق لجلاّدها! و"مسيحيّون مشرقيّون" في  ذمّة" جنرالهم البديل "الجميل"! 

 

قبل 3 سنوات، وفي أكثر من مناسبة، قمت بمحاولة توعية، قولا وكتابة، للاضاءة على حقيقة العلاقة المتينة  والمزمنة، بين جنرالي المطار والرابيه، وتنسيقهما المشترك لأحداث آب 2001، وكلّ ما قبلها وما بعدها، وفي غفلة عن حسنيّي النيّة وأنقياء القلوب، لتحقيق هدف سياسي هنا (ضرب مصالحة الجبل)، أو تخطيط مستقبلي هناك (تقوية الشعبيّة لقطفها لاحقا على طريقة تسمين الخواريف)، على حساب الأبرياء في المعتقلات، ودموع الكهول على كرامة مهدورة، وهم يخرجون من سجن "سيّدهم"، بعدما أدّى اعتقالهم النتيجة المطلوبة.

 

لقد قبضا معا ثمن الدموع ونضال الشرفاء. وهما اليوم يسعيان الى أثمان أخرى، لعلّ المنذورين لدفعها يُفيقون في اللحظة الأخيرة، لئلاّ يُعيد التاريخ نفسه، بمهزلة أو مأساة.

 

أمّا الجنرال "المسيحي"، الذي حطّ على رأسه الطير وخيّم عليه صمت مريب أمام قضيّة الانتاج التلفزيوني الايراني المسيء للرسالة والعقيدة المسيحيّتين، وأمام اساءات كثيرة ومتكرّرة من حلفائه، فلا يغيّر رفعُ صوته أمام السينودس شيئا من حقيقة الازدواجيّة، بل يؤكّد الوصيّة المسيحيّة في شأن الفرّيسيّين وكتبة الهيكل وباعته: "اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم". والوصيّة للمحازبين الراشدين فقط.

 

الاحد 26 أيلول 2010