قراءة كنسية للموقف الوطني للبطريرك صفير

بكركي تخشى على الوضع المسيحي - اللبناني من إيديولوجية "حزب الله"

ومن انقلابية العماد عون على خطه السياسي وعلى المسار التاريخي للجماعة المارونية

د. نبيل خليفة/النهار 25/06/09

مجمع الأساقفة الموارنة: ثبات في الخطر. 

 

في هذه النصوص المرجعية المعبّرة عن العلاقة بين الكنيسة والسياسة التي اختيرت بدقة لارتباطها بموضوع هذه الدراسة، والتي تشكل ينبوع تأمل عميق لدى كل مسيحي، تتجمع أدلة الثبات لموقف البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير على مستويين جوهريين:

 

- مستوى لاهوت الانسان / المجتمع، أي لاهوت التحرر.

 

- ومستوى لاهوت الارض / الوطن، أي لاهوت التحرير.

لاهوت الإنسان / المجتمع:

 

لاهوت التحرر

يخشى البطريرك من أن "حزب الله" الذي يهيمن على تيار 8 آذار أن يهيمن على الحياة العامة في لبنان (دينيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وعسكريا واعلاميا)، اذ ان مثل هذه الهيمنة تهدد منظومة الانسان / المجتمع في المفهوم الديني المسيحي في أمور منها:

 

1 - "حزب الله" حزب اسلامي أصولي يحمل رؤية شاملة الى نمط الحياة لدى الانسان والمجتمع، وهي رؤية تتعارض كليا او جزئيا مع نمط الحياة المسيحية في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتربية النفسية والجسدية والثقافية وسلّم القيم.

 

2 – يؤمن "حزب الله" ويعمل لدولة اسلامية وحكومة اسلامية مرجعيتها ومرشدها هو الولي الفقيه في ايران. إنها دولة دينية تيوقراطية يتولى السلطة الفعلية فيها رجال الدين الشيعة (حكم الملالي) وهو ما يشكل خطرا على الدولة اللبنانية المدنية، وبالتالي على حرية المسيحيين ودورهم وحضورهم في وطن الارز.

 

3 – في الدولة الاسلامية تكون النظم المدنية مرفوضة كونها نتاج العقل البشري ما لم تكن نابعة من مبادئ الشريعة الاسلامية وفقهها. وهذا يمنح رجال الدين "حق تأليف هيكلية الدولة الاسلامية وتوجيه سياستها في الداخل والخارج. وكذلك التأثير المباشر في تكوين البنية التحتية والفوقية للمجتمع. وهو ما يناقض الفكر العلماني بآفاقه المسيحية ويشكل خطرا على أوضاع الاقليات غير المسلمة في الدولة الاسلامية" (محمد ضاهر).

 

4 – وما يقلق البطريرك الماروني بشكل خاص هو التحدي الذي يواجه سلم القيم لدى المسيحي اللبناني: انسانا ومؤمنا ومواطنا في مواجهة سلّم القيم الذي أرسته نظرية الامام الخميني، وفيه:

 

- كرامة الشخص البشري كمحور للأخلاقية المسيحية، في ازاء محورية الأمة في الحكومة الاسلامية الخمينية.

 

- ثقافة السلام في ازاء ثقافة العنف (رمز غصن الزيتون ورمز الرشاش).

 

- مركزية الحرية في ازاء مركزية الوحدنة.

 

- الاعلان العالمي لحقوق الانسان، في ازاء إخضاع الاحكام كلها للشريعة.

 

- الديموقراطية بجوهرها كتكليف من الشعب، في مقابل التيوقراطية بالتكليف الشرعي.

 

- حركات سياسية في الجوهر، في ازاء حركة جهادية في الجوهر.

 

-الايمان الاسكاتولوجي المتعلّق بالاخرويات في ازاء الايمان الايديولوجي (المتعلق بالدنيويات والاخرويات في آن = دين ودولة).

 

-ويختصر أدونيس منهجي الحياة هذين بجدلية الثابت والمتحول، وفيها يتحدد مدى تحرر الانسان من خلال علاقته بالله والتاريخ في تعبيرين: الزمن الدائري والزمن الطولاني:

 

- الدائري (circulaire) فيه سعي للعودة الى الزمن المثال = زمن الرسالة.

 

-والطولاني (Lineaire) فيه اتجاه الى زمن جديد = زمن المستقبل).

 

اختصارا، اذا كان اللاهوت بمعناه العام علم الاجتهادات الفكرية لفهم الايمان بالاستناد أساسا الى الكتب المقدسة والعقيدة والتقليد، فان من حق البطريرك، بل من واجبه، في ضوء ما تقدم من تناقضات واختلافات وايديولوجيات مستوردة وتمايزات في النظرة الى الانسان والمجتمع في لبنان، من واجبه أن يقلق ويكون له موقف ويقرع ناقوس الخطر، منبها ومحذرا.. وهذا في صلب واجبه الرعوي وفي ذهنه كلام بولس الرسول: “إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارا" (غل 5/1).

 

لاهوت الأرض / الوطن: لاهوت التحرير

 

1 – ما شغل ويشغل بال البطريرك صفير ليس فقط تحرر الانسان بل تحرير الارض ارض الوطن. فحرية الانسان وتحرير الارض امران متلازمان في المبدأ العام وأكثر ما يكونان كذلك في الذهن الماروني نظرا الى العلاقة الخاصة بين الكنيسة المارونية وارض لبنان عبر التاريخ: "فمحبة الوطن هي محبة الارض ومحبة المواطنين" (البطريرك صفير، في محبة الوطن، رسالة الصوم 2007).

 

2 – يؤكد الأب ميشال حايك وجود "زواج حب سرمدي بين الماروني و الارض اللبنانية (دراسة بالفرنسية بعنوان: "الكنيسة المارونية والارض" "L'eglise maronite et la Terre"). ويشرح المطران حميد موراني هذا الحب من منظور جيوبوليتيكي بالقول: "ان الحدث المؤسس في تاريخ الموارنة هو هجرتهم من ارض سوريا، ارض الاضطهاد، والتهديد بازالة الذاتية، الى ارض لبنان، ارض الحرية واستمرار الذاتية. لذا فالموارنة يجعلون في اساس تاريخهم الهرب من الاضطهاد والبحث عن الحرية والاستقلال. فوجدان كل ماروني يولد من هذا المعنى وسيبقى هذا المعنى المبدأ المفسّر لكل أحداث تاريخ الموارنة، وسيبقون في حدود هذا التاريخ" (مجلة "الفصول"، العدد 5 – 6).

 

3 - ... ولأن هذه الارض هي ارض العطاء والعبادة وبلورة الذات والدفاع عن الذات فهي التعبير عن استقلالية الموارنة وأفق حياتهم الوحيد. ومع مرور الزمن والتفاعل ارض / زمن ولدت روح شعب (Esprit d'un peuple)، شعب استحل مكانه في التاريخ فانتقل النضال من اجل الحيز أو المجال اللبناني بالمطلق الى ملحمة خاضها الموارنة من اجل حرية / وتحرير اقليم جغرافي (لبنان) ذي حدود مرسّمة ونهائية يتم عبرها التمييز بوضوح بين الداخل والخارج، بين الذات والآخرين، بين ارض بترسيم حدودها ترسّم حدود الذاتية، ويكون الخارج عن ارضها هو الشقيق، او الآخر، او الخصم، او العدو!

 

4 – ومع ان ارض لبنان، منذ مئات السنين، هي المحور الذي يدور حوله مصير الموارنة، فان المفارقة تبقى في تفسير وتبرير هذه النزعة الثقافية الكونية لديهم، بمعنى آخر، كيف يمكن الجمع بين النقيضين: ايديولوجية المكان الضيق (الجبل) وفلسفة الكون الواسع (ارض البشر)؟ والجواب: ان ما مكَّن الموارنة من الانطلاق الكوني ثلاثة امور اساسية: انتماؤهم الى الكنيسة الكاثوليكية – الكونية، وانتشارهم الجغرافي في قارات العالم كلها، وتنوع تعبيراتهم الثقافية في لغات العالم الحية على اختلافها. ومن ذلك ولدت ما يسميها سينودس الاساقفة من اجل لبنان "دعوة لبنان التاريخية" (La vocation historique du Liban)، وجعلت من لبنان "البلد – الرسالة"، كونه ملتقى الديانات والحضارات والثقافات.

 

5 – المفارقة الثانية هي ان الموارنة، بعكس ما يتراءى من هذه المقاربة، لا يعتبرون ان ارض لبنان لهم وحدهم، بل يعتبرون ارض لبنان ارضا لهم ولاخوتهم المسلمين في آن. فقيمتها وأهميتها تكبران بمقدار ما هي ارض الحياة المشتركة، ارض الايمان بالحوار والسلام. ففي حين ربطت، او ارتبطت اسماء الاقليات والطوائف الاخرى باسماء الامكنة: جبل أرارات  (الأرمن)، جبال الأكراد، جبال العلويين، جبل الدروز، جبل صهيون... الموارنة وحدهم لم يربطوا انتماءهم "بجبل الموارنة" لانه في مضمونه الحياتي – الوجودي – اللاهوتي ليس لهم وحدهم، بل هو اوسع، فهو جبل الحرية لهم ولسواهم... وتصبح المقاومة في سبيله من اشرف المقاومات في التاريخ لانها مقاومة من اجل الحرية! والحرية تكون شاملة... أو لا تكون!

 

6 – في ضوء هذه العلاقة التاريخية: المارونية / الارض، وتخصيصا: الكنيسة المارونية والارض، وتجسدها في الكيان اللبناني، وانعكاسها على الوضعية اللبنانية في حقب التاريخ، فان البطريرك صفير يجد نفسه ككل بطريرك امام ضرورة وواجب، لا امام خيار ومهمة، وهو ان يلتزم ويدعو كل سياسي مسيحي مسؤول للعمل والدفاع عن لبنان الوطن السيد الحر المستقل، وهذا لن يتحقق شرعياً وفعلياً الا بتحقيق ترسيم حدوده مع سوريا كشرط "للسيادة الكاملة"، والاعتراف بنهائية وجوده كما نص اتفاق الطائف. وهذه المستلزمات غير متوفرة حتى الآن لانها تفرض تغييرا في الاستراتيجية السورية (سوريا الكبرى) وفي التكتيك السوري (سوريا المشكلة/ سوريا الحل).

 

اما العلاقات الديبلوماسية فهي على اهميتها تدخل في الموقت وليس في الثابت، كترسيم الحدود. وهي قرار سيادي يمكن الرجوع عنه، وليست كحدود مشرعنة على ارض الواقع، على خط القمم، بارادة الطرفين ومشرعنة ايضا في وثائق الامم المتحدة! وما لم يحصل مثل هذا الترسيم المرفوض من سوريا ومن حلفائها في لبنان (القدامى والجدد) كما عبّر عنه السيد حسن نصرالله في لجنة الحوار ايار 2006، فان من حق البطريرك صفير، وهو يرى علاقة البعض مع سوريا لأهداف المنفعة الخاصة من دون الوصول الى حلول للمشاكل الوطنية العالقة معها، أن يعتبر ذلك خطأ تاريخيا جسيما، وأن يشعر بالخطر على المصير الوطني!

 

7 – ومن الموضوعات الاساسية التي تقلق البطريرك موقف حزب الله والعماد عون من اتفاق الطائف: فالسيد حسن نصرالله رأى في الاتفاق منذ البداية "مشكلة لانه يكرس النظام الطائفي الماروني". ويركز السيد على "بقاء رئيس الجمهورية القائد الاعلى للجيش" (من خطابه في برج البراجنة في ذكرى عبدالله عطوي "الحر العاملي" – جريدة "السفير" 6/11/1989).

والعماد عون كـ"حزب الله" لم يؤيد الاتفاق منذ البداية وهما يسعيان الآن الى تغييره او تعديله باتجاه المثالثة بديل المناصفة! وكانت البداية في اتفاق الدوحة! والبطريرك صفير شديد الحرص منذ البداية، واليوم خصوصا، على التمسك باتفاق الطائف كأفضل مقاربة في واقع توازن القوى الحالي وباعتباره افضل الممكن في الواقع وليس في المطلق!

 

يوم انتخبت المناطق المسيحية لوائح العماد عون العام 2005 بنسبة عالية، قال البطريرك صفير جملته الشهيرة: “الآن أصبح للموارنة زعيم". يومها كان العماد عون لا يزال يحمل رتبة "قائد حرب التحرير ضد سوريا"، وهي الرتبة السياسية الوطنية التي تعلو، بنظر المسيحيين، على رتبه العسكرية. ويومها شارك جمهور العماد عون بكثافة في تظاهرة 14 آذار 2005 بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري (14 شباط 2005). وصدر للتيار الوطني برنامج انتخابي برتقالي يعبّر مضمونه، في مواقفه الاساسية، عن طروحات الجماعة المسيحية وبالتالي عن هموم الكنيسة المارونية، كما عبّر عنها نداء المطارنة الموارنة في 20 ايلول 2000. ولئن كان البطريرك يخشى اليوم على الوضع المسيحي / اللبناني من شمولية حزب الله وتسلطيته، فهو يخشى ايضا من انقلابية العماد ميشال عون على تاريخه السياسي، أي على الخط التاريخي للجماعة المارونية (الكنيسة المارونية). ولو بقي في هذا الخط، أي في مسار الكنيسة، لكان معنيا جدا ومشمولا ومزهوا بالنص الذي أصدره المجمع الماروني عن تلك الحقبة وفيه "بعدما كان لبنان ساحة لتسلط الآخرين صار ساحة شهادة أبنائه جميعا لحريتهم وزخما لأكبر انتفاضة شعبية في العصر الحديث. لقد تمكنت الكنيسة، بمشاركة معظم الشعب اللبناني، بأن تحفر تاريخ لبنان الحديث بابرة الحق والايمان فوق صخرة الظلم والليل الطويل، فتمكنت من انقاذ الوطن واستعادة الدولة" (فقرة 32).

 

ألا يبيّن هذا الكلام بوضوح صارخ أين تقف الكنيسة فعلا، وبالتالي أين يقف البطريرك صفير؟

ثم ألا يبين ايضا، بذات الوضوح، وبكل أسف، الى أين انتقل بعض أبنائها، بحيث صار على الكنيسة ان تعيد الى اذهانهم كلام النداء الاخير لللسينودس: "إنه من واجبنا اليوم ككنيسة ان نعلن قيما دينية وانسانية، وأن ندعو السياسيين الى أن يتحملوا بشجاعة مسؤولياتهم أمام ضميرهم وأمام الأمة والتاريخ".

وهذا ما فعله البطريرك صفير!

د. نبيل خليفة      

((•) باحث في الفكر السياسي والديني. مشارك في السينودس والمجمع الماروني.)