ذكريات عن سوريا:
أخبار من جبل
لبنان في
القرن التاسع
عشر
بقلم أو. إ.
سينكوفسكي –النهار
27/2/2006
عندما تتخطى
مرحلة عنفوان
الشباب وأنت
مسرع الخطى،
التفتْ الى
الوراء
قليلاً، وألق
نظرة على تلك
المرحلة من
العمر التي
خلفتها وراءك،
ترَ أنها أشبه
بحقل مزروع
عاث فيه جمع
رهيب من
الاعداء،
فغدا خرباً،
مفروشاً
بسيقان
نباتات من
الانطباعات
يابسة. وبعض تلك
النباتات
اصابه اليتم
وظل قائماً في
هذا الحقل
وكأنه مكسو
بالاوراق،
فيما تتمايل
هنا وهناك
زهرة شبه
مسحوقة على
ساق وحيدة لم
تغمرها رمال
الماضي... لقد
مررت بهذه
النباتات مسرعاً
ذات يوم،
ولكنك لم تكد
تلحظها. ان
الصدفة هي
التي ابقت على
الجذور. ولكن
الريح
القائظة،
الشديدة التي
ساقتك امامها
وهي تلهب
قلبك، هي نفسها
الريح التي
ايبستها
وجردتها من
النسغ واللون.
انك تتمنى ان
تكافئ ذلك
الاهمال
القديم، وان
تستمتع الآن
بما لم يتسن
لك تدقيق
النظر فيه
آنذاك: لقد
لامستها
بفكرك، فاستحالت
في لمح البصر
هباء منثوراً.
وفي هذه الفوضى
من
الانطباعات
والمشاعر
المدعوكة،
المترمدة، في
هذه المقبرة
الفسيحة من
الآمال التي
دفنت من غير
شواهد او
ذكريات، ربما
كان يرقد حبك
الاول، ومبرة
جلى أتى بها
صديق!.. ولكن
اذا كان لا
يزال قائماً
في وسط هذه
المقبرة تمثال
متين ورائع،
لم تفسده بعد
ريح الاهواء اللاذعة،
فلا شك في ان
هذا التمثال
يجب ان يكون
قد شيد
تكريماً
لمنظر خارق في
الطبيعة، كان
قد ادهشك في
صباك. ان
الانطباعات
القوية التي تولدها
الطبيعة
الميتة تنحفر
في روحنا اشد
عمقاً، وتبقى
فيها مدة اطول
مما يبقى كل
ما في الحياة
من احاسيس
اخرى، مهما
قال الذين يكتبون
تاريخ قلبنا
البائس. لا
أظن ان ابن
السهول يتسنى
له، اذا ما
انتقل الى
جبال شامخة،
ان ينسى صورة
تلك الجبال
يوماً، ذلك ان
عشر صور لأناس
نحبهم اعظم حب
تمر عبر الروح
وهي تلتهم
ويمحو بعضها
بعضاً، ولكن
مشهد الجبال الرائعة
التائهة في
السحاب،
والمكللة
ببياض ثلج
أبدي، هو مشهد
لا يمحي
ابداً. وكلما
امتدّ الفاصل
الزمني بين
الفكر
والانطباعات
التي يتركها
منظر الجبال،
امعنت
الذكريات بتزيين
هذه الجبال
بأبهى الصور
في ذهنك. ان
التعب والصعاب
والحرمان
التي لا بد
منها في هذا
النوع من
الرحلات،
سرعان ما
تختفي من
الذاكرة حالماً
يعود المرء
الى مسرات
الحياة
المألوفة، ولا
يبقى لديك الا
الافتتان
بحالتك غير
العادية وانت
على سطح
الكوكب الذي
تقطنه.
انني أرى
امامي الآن
ملامح هائلة
لصخور باذخة
تمتد سلسلة
صخرية مثلثة
على طول سوريا
التي لوحتها الشمسن
حيث تصرمت
واحدة من اشد
سنوات عمري ايلاماً
واكثرها
تنوعاً. فقد
كنت مدفوعاً
بذلك النهم
للعلم، وتلك
الثقة بقواي،
والاستهانة
بصحتي،
وبعنادي من
اجل تحقيق
الهدف الذي طالما
حلمت به، اي
مدفوعاً بما
يسهل تصوره في
نفس غر يناهز
العشرين من
عمره، يوم
انطلقت مسافراً
دون مرافق او
مال، الى مخدع
الطبيعة المترامي
هذا، احد اروع
المخادع التي
شيدتها الطبيعة
على الارض
دليلاً على
جبروتها.
أقدمت على ذلك
دونما تفكير
بخطر الضياع
في هذه المتاهة
الرهيبة من
قمم تناطح
الغيوم، حيث
قد يجمدك
بردها في عز
الصيف، ولا
بالوديان
السحيقة اللاهبة
التي تتلظى
فيها الحياة
العضوية بفعل
اشد حرارة
خانقة يمكن ان
تصدر عن
الشمس. وقد املت
علي قلة ما
كان لدي من
مال ان اتعجل
معرفة كل ما
كان بوسعي ان
اعرفه في تلك
البلاد، والا
انسى شيئاً
مما حفظته
الذاكرة ذات
يوم. كان
العرق يتصبب
من جبيني وانا
اتنقل من جبل الى
جبل بكتبي
(وكانت الكتب
كل ما املك)،
وكانت حنجرتي
تتمزق في
وحشتي وانا
اجاهد لبلوغ
النطق السليم
باللغة
العربية على
غرار ما تصدح بموسيقاها
شفتا درزي او بدوي
وكأنها صوت
جرس فضي كامن
في صدر انسان،
فقد سحرت اذني
بجدتها،
واوصلني تعذر
تقليدها الى
القنوط. كانت
وديان كسروان
الموحشة
تحيطني برواق
من الجروف
الصخرية
السوداء،
وترجع صدى
جهودي في تعلم
نطق هذه
اللغة،
وكثيراً ما
كنت ابتسم مرغماً،
ساخراً من
غرور اللغوي
فيّ وأنا أرى
سحليات
متراكضة بمرح
فوق الصخور
تتوقف على مقربة
مني وهي تفتح
اشداقها
عجباً من نطقي
الاصوات الحلقية
التي شدّما
كنت اجهد نفسي
في استخراجها
من اعماق
رئتي. وعندما
اعود الى
الوكر الذي
اسكنه في دير
ماروني ما،
كنت ايضاً
انهك قواي
بالانكباب
على مخطوطات
سريانية
وعربية عثرت
عليها في
مكتبة فقيرة
لدى راهب
متعلم. فكنت
اسرع بتسجيل
وصف لاكثرها
اثارة
للفضول، وأقرأ
على عجل تلك
المخطوطات
التي لم اتمكن
من نسخها،
وادون
استنتاجاتي،
واضع اشارة
على ما اجد
فيها من
عبارات بديعة
او اقوال
بلهاء سمعتها
باللغة
المحكية،
فأحاول طوال
الليل حفظها
عن ظهر قلب. ان
امضاء
ساعتين، وعلى
الاكثر ثلاث
ساعات من
الاستراحة
على البلاط
العاري،
برفقة
القاموس
بدلاً من
الوسادة، كان
كافياً لان
استعيد نشاطي
كي ارغم نفسي
من جديد على
القيام
بأعمال لم يكن
يقطعها الا
سعيي لاصطياد
عقرب او ابو
بريص (يكتبها
كما تنطق
بالعربية – م.)
يدب على حائط
الصومعة
الرطب، او سحلية
بريئة، بل
وجميلة،
ولكنها تترك
في النفس
تقززاً لا
يمكن التغلب
عليه. ولما
استنفدت في
غضون بضعة
ايام حكمة
الدير
الفقير،
توجهت لمواصلة
البحث عن
تمارين
جديدة،
ومشاطرة نساك
آخرين طبق
العدس
المطبوخ
بالزيت. وعلى
هذا النحو
امضيت ستة
اشهر او سبعة
قبل ان يصل بي اجهاد
القوى
الذهنية
والبدنية
المفرط، والمأكل
الخشن غير
الصحي،
والتعب وشتى
صنوف الحرمان،
الى ايقاف
حماستي بمرض
خطير اسكن
صدري جنين
معاناة د
ائمة، ربما هو
جنين الموت
المبكر. غير
ان هذا الدرس
لم يجعل افكار
الصبا تهتدي
بصوت العقل.
فما كدت
اتعافى من حمى
الجبال حتى
انكببت ثانية
على اللغة
العربية
بالضراوة
السابقة... وما
هي الا اربعة
اشهر حتى هدني
مرض اشد هولاً
من سابقه، وما
من شك في انه
كان يمكن ان
يلقي بعظامي
لضباع الشوف
لولا ان صديقاً
طيباً عطوفاً
(سقط بعد ذلك
في جزيرة جاوا
ضحية هذا
الولع ذاته
بالترحال)
انتشلني من
اعماق جبال
لبنان
الملفعة
بضباب شتوي
قتال وامطار
باردة،
وارغمني على
السفر الى
افريقيا. لعله
لا يجوز للمرء
ان يعرض نفسه
طوعاً لمزيد
من المعاناة،
ورغم ذلك كله
لا تزال تلك السلسلة
الجبلية
السورية
الجبارة
تتراءى لي حتى
اليوم في ثياب
حلمي الاثير
الزاهية. لقد طوى
النسيان تلك
العذابات،
ولم تعد
الذاكرة تتبينها
تحت غبار
الذكريات
القديمة الا
بعسر. ولكن
عظمة جبال
لبنان وحدها
ترتسم حية
ابداً في
خيالي بعدما
برّدته
التجاريب،
وان مرّ به
هذا القدر
الكبير من
الاطياف
والتأملات والآمال
العقيمة! ولا
أزال حتى الآن
احب ان اتسلق
في خيالي تلك
الجروف
الصخرية
شاقولية الانحدار
في سويسرا
الشرق،
الجروف التي
حفرت فيها يد
السوري الذي
يعشق العمل
درجات لا تحصى
فجعلت منها
سلماً الى
السماء،
ونقلت اليها
من الوديان
السحيقة تربة
تزرع فيها
صفوف من اشجار
التوت
الباسقة،
والكرمة
المثقلة
بعناقيد ضخمة
تتدلى منها،
او شعير
متواضع. احب
ان اعود بذاكرتي
الى ذاك
الغرانيت
العاري
المنكمش، وكأنه
بصدره الاسود
يحمي الكون،
ذاك الغرانيت
الذي يحرثه من
حضيضه حتى
الغيم اناس
يعشقون الاستقلال
ويكرهون
الدمويين
الطغاة. وما
زلت ارى ايضاً
تحت قدمي تلك
الوديان
السحيقة الخضراء
القاع،
والنهر
الازرق
الصاخب،
والشريط الزهري
من ورود
الدفلى
المتفتحة على
جانبي الماء،
والبيوت
الصفراء في
ضاحية بهيجة،
وارى فوق رأسي
تلك الذرى
الحادة يحيط
بها هنا اكليل
من غيوم، مع
دير وكنيسة
وراء السحب،
وهناك ثلج نقي
براق يبهر
النظر ببياضه
تحت نور الشمس،
وتزينها
خمائل صنوبر
زكي وارز
توراتي. واسمع
ذاك الصوت
الحنون الذي
ينساب من
الجرس المسيحي
صدى فضياً
مديداً في
غابة من صخور
تكاد تلامس
قبة السماء،
ويملأ
الاعالي
وطبقات الجو بكل
قداسة
الايمان، (...)
واسمع حتى ذاك
الصوت الرنان
لعربي يغني
بملء صدره
وصوته الرخيم
اغنية تمجد
العذراء
البتول وهو
يهبط سفحا شديد
الانحدار
وراء حمير
محملة
بالتراب، جاعلا
الجبال وسط
دولة الاسلام
تردد خلفه
اناشيده
الدينية بصوت
جهير. فليصعد
احدكم خمسة
آلاف قدم او
ستة فوق مستوى
سطح البحر
ليجد نفسه حقا
في عالم آخر؛
ويتلقى بصدره
رذاذا ناعما
لا يشبه بشيء
ما كان
يستنشقه في
السهل من هواء
غث؛ هنا يجري
الدم في عروقك
على نحو آخر،
وعلى نحو آخر
ينبض قلبك،
وتنبسط امامك
جملة جديدة من
الاحاسيس
والافكار،
وتحيطك
بمفاهيم جديدة،
فالنفس تسمو
حقا فوق قمم
الجبال قدر ما
تسمو في طبقات
المجتمع
العليا. ويخيل
اليك انك لا
تنتمي الى
كوكبك، بل
تتحول الى عقل
خارج الجسد
معلق مثل نجمة
في الفضاء
اللانهائي، عقل
يرسل في
الاعالي
وميضا خافتا
ولكنه يشع منه،
ولا يكاد يأبه
بهذه المغارة
السحيقة المظلمة
من الاهواء
الخسيسة
والكبرياء
التافه عند
بني جنسك. لقد
اختفى
الانسان في
هاوية لا قرار
لها، واندغمت
طرقاته
وبساتينه وما
زين به الارض
التي
استباحها،
بضباب رمادي
يشكل محيطا من
الهواء،
وتبدو لك
تماثيله
ونصبه الضخمة
نقطة سوداء لا
تكاد تراها
العين؛ وتتخذ
مدنه الفخمة
المكتظة
بالبشر شكل
اوكار نمل تافهة،
فتتمنى ان
تضعها تحت
المجهر
لتكتشف دهاء الحشرة
التي تسكنها
واخلاقها
واعمالها،
لعلك تثري علم
الحشرات بفصل
جديد عن
الانسان النملة.
انك لا تقوى
على التصديق
بان العظمة
والغطرسة
والمجد يمكن
ان تسكن في
هذه الاكوام
من الرمل
المتلاصق،
الغارقة في
طبقة من
الظلمة القذرة،
وتكون على
اهبة
الاستعدادلان
تصرخ: كلا! لا
يمكن ان يكون
لها ها هنا من
وجود!... والا
توجب الاقرار
بان المجد
والعظمة
معروفان ايضا
في خلية النحل
ووكر النمل،
بل ومعروفان
قبل ذلك بوقت
طويل في
المخادع
الفسيحة
للنمل الافريقي
الذي يشن
الحروب وينهب
ممتلكات
الديدان ويستعبد
المغلوبين!
فاما ان ما
رأيته في
السهل مجرد
حلم، او ان كل
ما في العالم
يتوقف على
ارتفاع الحيز
الطبيعي الذي
تنظر منه، وعلى
بنية عين
الانسان!
لقد تكللت
جهودي في
دراسة اللهجة
العربية المحلية
بنجاح زادني
غرورا بنفسي؛
واني لاعترف
بذلك بشجاعة
كبيرة ودونما
تواضع كاذب،
وكأني اتقنت
تعلم العلم بالازميل
فيما لو كنت
قد اشتغلت
بالنجارة
يوما. واني
لارى بين هذه
المهنة وعلم
اللغات شبها كبيرا،
فالاولى عمل
ميكانيكي
تقوم به اليد،
والثاني عمل
ميكانيكي
تقوم به اعضاء
الذاكرة واعضاء
المضغ والبلع.
ولكن التغلب
على الصعوبة،
حتى في مهنة
النجارة،
يغدو مصدرا
لخيلائنا
وافتخارنا،
فكدت اعدّ
نفسي ندا
لارسطو عندما
كان العرب
(المفعمون بحب
للغتهم هو
عبادة حقيقية
بين عشاق،
والذين
يقدرون السجع
الجديد
تقديرا
عاليا، وربما
هم في ذلك على
حق، يعادل
تقديرنا نحن
للافكار
الجديدة)
يسمونني فيلسوفا(1)
لانني كنت
انطق احرفهم
الحلقية نطقا جيدا،
او عندما
يجادلونني
باني لست
افرنجيا بل
"ابن عرب". لقد
تمكنت من
"تدبيج"
عشرات ابيات
الشعر
الرديئة
باللغة
العربية،
فلاقت نجاحا
كبيرا بين من
حولي، وذاع
صيتي في عدد
من هذه الجبال
المتلاصقة.
وكثيرا ما كان
يزورني شيوخ
من وجهاء
الموارنة
والدروز
ليدخنوا غليون
تبغ جبلي مع
هذا الافرنجي
الطريف الذي
"يعرف ما
يقول"،
ويستفسروا عن
اخبار اوروبا:
كيف صحة
البابا؟
وماذا يفعل
امبراطور
الصين؟ وما اشبه
ذلك. ان
الاجوبة التي
اطلقتُ
العنان لخيالي
في ابتداعها
جاهدا الا
يتجاوز تشويق
الاخبار فيها
سذاجة
المستمعين
ودماثة
خلقهم، قد
قدمت غداء
وفيرا
للتصورات
السياسية عند
الشيوخ
ورؤساء
الاديرة
والاساقفة
والآباء والرهبان
في الشوف. لقد
وجد فيّ هؤلاء
الشيوخ، والغالبية
العظمى من
وجهاء الطبقة
الوسطى، رجلا
واسع المعرفة
في فن "الفتق
والرتق"، اي
في فن ادارة
الدولة. كما
ان راهبات
اخوية القديسة
تيريزا
اللواتي
عرفني اليهن
اسقف سوق
الكبير،
العجوز
المبجل المرح
ذو التربية
الكاثوليكية،
وبارك لقائي
بهن كل يوم،
بل والتباري معهن
بالسجع، فقد
كن في غاية
الرضى عما
زودتهن به من
معلومات عن
أزياء النساء
في اوروبا ومواد
زينتهن. ولكن
الرهبان
سرعان ما
كونوا عني صورة
بالغة السوء
نتيجة رأي
عبرت عنه امام
جماعة
انعشتها
طلاوة
النبيذ
"الذهبي"، عندما
رحت ابرهن ان
الارض تدور
حول الشمس.
وبالرغم من
مناصرة صديقي
الاسقف الذي
دافع عني بكل
قواه، ومن
الاستحسان الصاخب
الذي ابداه
الشيخ بشارة
الشهير، السكير
البدين
والمرح الذي يعد
نفسه متحررا،
وكان، من باب
المناكفة،
يرى مضحكا ان
يؤمن المرء
بأن الشمس لا
تدور حول
الارض في حين
انها تدور
حولها بجلاء،
لاحظت ان بعض
الرهبان، ولا
سيما واحداً
بينهم مشكوك
باخلاقه
ويدّعي انه
عالم فلك،
يسعون
للتشهير بي
كهرطوق. فقد
طرقت سمعي
مرارا كلمة
"فار مازون"
2،
واثارت في
نفسي قلقا
بالغا. حقا،
ان كلمة
"روسي" التي يكن
لها الناس في
هذه الجبال
بالغ
الاحترام قد
حمتني من
اساءة محتملة.
غير ان اولى
نتائج هذه
السمعة
واشدها
ايلاما كان
يمكن ان يتجسد
في انني لن
اجد في هذه
الديار احدا
يبيعني جرعة
ماء، او يؤجرني
دابته للركوب
خوفا من ان
الحمار الذي يمتطيه
ماسوني سينفق
على الفور.
وبالرغم من
ان نظريتي عن
الشمس قد
اثارت الكثير
من الفضول
حولي عموما،
وحتى عند
الراهبات،
فقد قررت
انطلاقا من
التعقل
والاحتراس ان
لا اسعى
للبرهان على
ان الارض تدور
حول الشمس.
ولم اجادل في
هذا الامر الا
على انفراد مع
راعي دير مار
يعقوب حيث كنت
اقيم آنئذ، اي
مع صديقي
الطيب الذي
كان يتوخى،
على ما يبدو،
اقناعي ببطلان
رأيي حرصا منه
على سعادتي في
الحياة المقبلة.
وقد كان بالغ
الرضى عن نفسه
عندما كففت عن
الاعتراض
عليه، وكان
على يقين بأنه
انقذ الشمس من
جهة، وروحي من
جهة ثانية، ما
دام جعلني
افصح (من باب
اللياقة) عن
موافقة مصطنعة مع رأيه
الذي بناه على
شهادة ارسطو
الكبير
بالذات!
وذات يوم من ايام
تموز
الرائعة، تلك
الايام التي
لا يمكن للمرء
ان يراها الا
تحت سماء
سوريا، كنت
اتنزه، وكتاب
في يدي، على
سطح دير
عينطورة
الشهير الذي
يقع في واحد
من اعظم الاماكن
في العالم
بمياهه
اللانهائية في
الهضبة
والسفح، اطل
على الوديان
الباذخة،
والبساتين
الغنية، وكروم
العنب
والتوت،
والبحر
المتوسط
المترامي في
فضاء لا يمكن
للنظر ان يحيط
به الا من علو
الفي قدم. كانت
الساعة حوالى
الرابعة عصرا.
وكانت الشمس
تتألق بكامل
بريقها في
بلدان الجنوب،
وقبة السماء
اللازوردية تشتعل
بأوار حريق
حقيقي من نور
ينسكب دفقات
مبهرة
خيل انها تتحول
الى زبد ابيض
وهي تتكسر على
الارض الكلسية اللون
هنا.
وفي الاسفل
كان الهواء
المصهور يغلي
تيارات
بالمعنى الدقيق
للكلمة،
وتتراقص فيه
بسرعة غير
عادية
شذرات، كإبر
من نار، متخذة
من اشعة الشمس
المثرومة شكل
عصيدة متحركة. وفي
الاعلى، على
ارتفاع
الدير، كانت
برودة الجو
كبيرة، ونسيم
لطيف يهب من
البحر مفعم
بشذى الاعشاب
العطرية التي
تنمو في الجزء
الاسفل من
الجبال، يضفي
على الجو
طراوة
فاتنة. ولم
يكن يعكر هذا
الجو اثر
لبقعة في اي
مكان، فحتى
دير مار يعقوب
الذي يحتل عمق
هذه اللوحة
كان في هذا
الوقت قد خلع
عن كاهله
معطفه
الرمادي المصنوع
من الغيم.
ولما كنت منكبا على
القراءة ظللت
مدة طويلة لا الحظ
اي تغير في
ضوء الشمس،
وبغتة
اذا بلون
اصفر باهت
ينسكب اخيرا
على صفحات
كتابي فيثير
فضولي. وحين
رغبت في
العثور في ما
حولي على سبب
لهذه
الظاهرة، كان اول
ما اثار دهشتي
حشود من
العرب، في
ثياب زاهية
الالوان،
تتجمع على
المرتفعات
القريبة. كان
الناس
يتراكضون من
بيوتهم الى
الاسطح
واعالي
الجبال،
ويظهر الاضطراب
في حركاتهم
وضجيجهم.
كانوا ينظرون
الى الشمس، فوجهت
ناظري الى
هناك ورأيت
اروع كسوف
يمكن للمرء ان
يتصوره. وانه
ليتعذر على
المرء ان يرى
كسوفا يفوقه
حسنا ونقاء
حتى بواسطة
المهجر. لقد كان
قرص القمر
داكنا، بني
اللون
تقريبا، يرتسم
بشكل بديع على
قرص الشمس
الاصفر
الهائل المجرد
من الشعاع
والبريق.
كان القمر،
تابع الارض،
يحجب اكثر من
نصف الشمس،
والكسوف مستمر
منذ ما يربو
على ساعة ونصف
الساعة قبل ان
يعلم احد في
الدير بذلك.
وكنت اول من
اخبر سكان الدير
بهذا الحدث
المهم الذي في
السماء. فاحتشد
الجميع على
السطح،
وامضينا ساعة
ونصف الساعة
ايضا ونحن
نراقب باعجاب
هذين الجرمين
السماويين
الهائلين
اللذين كانا
يريدان بتقاطعهما،
اذا جاز
القول، ان يبز
احدهما الآخر
بضخامته. كان
الكسوف تاما،
وقد تكلل هذا
العرض
الدرامي
العظيم للكون
في كل اجزائه
بنجاح باهر لا
يضاهى.
لم نول
اهتماما
كبيرا للناس
الذين كانوا
يتمشون
بالقرب من
الدير، لانهم
كثيرا ما
كانوا يحيطون
بالرهبان،
وهم وقوف عند
البوابة،
ليشرحوا لهم
بمهابة، سرد
هذه الظاهرة
العجيبة.
وفجأة ترامى
من وراء
الاسوار وقع
حوافر خيل،
وسمعت اصواتا
مألوفة تصيح
"الافرنجي في
البيت؟
الخواجة يوسف
وينو؟" (وكنت مشهورا
بهذا الاسم
هنا في الجبال).
وسرعان ما
صعد الشيخ
بشارة
متثاقلا الى
السطح بجسده
الضخم وهو
يحشر كرشه
بصعوبة داخل
درج ضيق شديد
الانحدار كان
صلة الوصل
بالطبقة
السفلية للدير.
وحضر معه عدد
من اشهر
شخصيات
الموارنة في سوق
الكبير،
وكثير من خدام
الدير. فقد
كان راعي
الدير انطون
عريضة، معلمي
الذي لا انساه
ومؤلف الكتاب
الشهير في
قواعد اللغة
العربية، في
حالة مرض
شديد، وأرسل
يطلب مني ان
انوب عنه في
استقبال شيخ
جليل كان
الجميع
يتذللون امامه
بصفته حاكم
الناحية،
وثريا، ومالك
كروم عنب
شهيرة تنتج
"الخمر
الذهبي".
فجاؤوا بالسجاد
والوسائد،
وجلس الشيخ
متربعا واشعل
غليونه،
فجلست قبالته.
واتخذ باقي
العرب اماكنهم
على اطراف
السجادة. وفي
هذه الدقيقة
بالذات وصل
صديقي رئيس
دير مار
يعقوب،
فأدركت على الفور،
من سحنته
المتكدرة
اللاهثة، انه
خف للتداول
معي حول كسوف
الشمس حتما.
كذلك كان
الشيخ البدين
يفصح عن حالة
قلق، وكان
جليا انه يريد
ان يسألني عن
امر ما. غير
انه، بصفته
شخصا فائق
التهذيب وعلى
قدر كبير من
"اللباقة"، لم
يقدم على ما
نوى الا بعدما
اكد لي ان
التعب "انهكه"
تماما وهو يجد
حتى وصل الى
عندي، وبعدما
استعلم عن
صحتي اليوم
والبارحة
واول البارحة،
ويوم السبت
الفائت
والاثنين
المنصرم وقبل
عشرة ايام
مضت، وبعد ان
جمع كل هذه
المعلومات،
رشف من فنجانه
قهوة حارة
ثقيلة، وصمت تأدبا،
ثم القى نظرة
الى الشمس
والي، وقال:
- يا نور
عيوني، يا
صديقي
الخواجة يوسف!
كرمى لوالدك...
قل لي ماذا
يعني هذا؟
- البركة
فيك ايها
الشيخ! انه
الكسوف.
- كأنني لا
ارى ان هذا
كسوف! ولكن
ماذا يعني
هذا؟
- يعني ان
القمر حجب
الشمس.
- القمر او
الشيطان،
فهذا لا
يهمني. ما اريد
ان اعرفه هو
ما معنى هذا؟
وبأية مصيبة
ينبئ؟ ضحكت.
فتحير الشيخ
بعض الشيء من
مرحي في هذا
الوقت
العصيب،
واخرج غليونه
من بين شفتيه
وتوسل الي وهو
يدسه في فمي
برقة لا يمكن
وصفها:
- يا خواجة
يوسف! الله
يطول عمرك!... يا
مهجة قلبي!..
انت فيلسوف،
فانظر في كتبك
وقل لي ماذا
علينا ان
نتوقع من هذا!
يقولون ان
مصيبة كبرى
ستحل بجبالنا
المقدسة؟
فأجبته:
- يا شيخ!
انت رجل كامل،
صاحب العقل،
ابو الفكر... كيف
لك ان تؤمن بمثل
هذه
السخافات؟
فالكسوف ابسط
الاشياء، واكثرها
طبيعية في
العالم.
وسأريك كتابا
مطبوعا في
القسطنطينية
يشرح هذه
الظاهرة شرحا
مقبولا،
لتقتنع بنفسك
ان كسوف الشمس
لا يعني الا
ان الشمس قد
انكسفت،
والامر لا
يخصنا ابدا نحن
عباد الله...
ثم اسرعت الى
غرفتي، وجئته
بكتاب
جغرافيا حجي –
كالفي.
واعتمادا على
ما في هذا
الكتاب من
رسوم، وما
خططته انا على
الورق، رحت
احاول بأكثر
ما استطيع من
القدرة على الافهام
ان أشرح له
موقع الشمس في
مركز الكون، وحركة
الكواكب
وتوابعها من
حولها. ولم
يكن الشيخ
غبيا، ففهم
جيدا ما قلته.
ثم تناول الكتاب
من يدي
وتفحصه من كل
الجوانب، واذ
أيقن ان
الكتاب صادر
حقا في عاصمة
السلطان أبدى
اسفه لكونه لا
يعرف اللغة
التركية. وكان
صديقي رئيس
الدير يدخن
غليونه لا
مباليا طوال
هذا الوقت.
فقد كان يدعي
معرفة اللغة
التركية،
خاصة عندما
يفرط في الكذب
فيستشهد
بأرسطو، او
يتحدث عن
بولتار الكلب
(الكلب
فولتير). غير انه
اضطر، نزولا
عند طلب
الشيخ، ان
يعرض هو ايضا
وجهة نظره حول
هذا الكتاب
العجيب، الا
انه لسوء حظه
لم يفهم فيه
كلمة واحدة،
فأعاده الي مكتفيا
بالقول: "هذا
جغرافيا، علم
عن عجائب الكون
ونوادره".
اما شيخنا
النبيل الذي
لم يناقش في
يوم من الايام
مسألة كسوف
الشمس الا
وزجاجة
النبيذ الى
جانبه فقد
أفهمنا وهو يدخن
غليونه
العاشر ان
حلقه قد جف
تماما من الغبار
والقيظ.
وسرعان ما
انحنى امامه
راعي الدير
بابريق مطلي
بالصمغ فيه
شراب الذهب
المعتق، او "vin d'oro". عندها
اتخذ الحديث
منحى آخر،
فاسترسل
الشيخ في
الكلام عن
السياسة الاوروبية،
وما لبثت ان
تتالت
الاسئلة عن البابا،
وامبراطور
الصين، وينغي
دنيا، او العالم
الجديد، وغير
ذلك. وبدهي
طبعا ان سياسة
الشيخ لم تنس
ان تناقش
باستفاضة
موضوع النساء
الاوروبيات،
فأطنب في
الحديث عنهن
بكلام جميل،
ثم وبخ راهبا
شابا ظل يبصق
طيلة الحديث
ويؤكد انهن
"أفاع". وفي
الختام أمر
الشيخ أحد
رجاله وهو فتى
مرح وظريف
يتميز بنضارة
الوجه وبياضه،
ان يغني كما
تغني زوجة
القنصل
الفرنسي في صيدا.
فانخرطت
الجماعة كلها
في الضحك من
هذه المحاكات
الكاريكاتورية
لألحاننا،
ولانفجارات
صوتنا
الصاخبة. وقد
كنت مضطرا
للاعتراف بأن
هذا العربي
الساخر نجح
ايما نجاح في
التقاط
الجانب
المضحك من
موسيقانا
الاوروبية.
ثم غادر
الشيخ بشارة
مع جماعته
كلها وهو بالغ
الفخر
بـ"مهرجه"
وكسوف الشمس.
فودعتهم الى ما
وراء
البوابة،
وعدت ثانية
الى السطح.
وكنت أظن
انهم قد رحلوا
منذ وقت طويل،
حين سمعت فجأة
عند أسفل
المبنى
كلاما، بل
وتبين من
خلاله اسمي
بوضوح. ولما
ألقيت نظرة
الى الاسفل
رأيت الشيخ
بشارة مرة
أخرى وغليونه
بين أسنانه، وامامه
ابريق ثان.
كان يفترش
الارض مع
جماعته مقابل
الدير وهم
يتداولون في
موضوع الكسوف.
فأعرتهم أذني
وسمعت الحديث
التالي:
- معلوم! -
قال راعي
الدير وهم
ينصتون اليه
كأنه نبي، - ان
هذا الافرنجي
الشاب ليس
أحمق، فهو "فهيم"
جاب الدنيا،
ويقول كلاما
صحيحا تماما عن
أشياء شتى.
ولكن لا لزوم
لذكر الشمس
امامه. يبدو
ان المسكين
ممسوس فيما
يخص هذه النقطة،
فما تلبث ان
تقول "الشمس"
حتى يبدأ يروي
سخافات، وأي
سخافات، عفوك
يا الله!
لم أتمالك
نفسي، فضحكت
بصوت عال،
وكدت أسقط عن
السطح عندما
سمعت هذه
الكلمات التي
انغرزت عميقا
في ذاكرتي مع
صراحة قائلها
ووجهه الذي يميت
ضحكا، حتى
أنني، على ما
يبدو، لم أنس
منها حرفا
واحدا بعد
مرور أربعة
عشر عاما. لقد
قلبوا نظريتي
كلها رأسا على
عقب، ورأيت
انني عبثا أجهدت
نفسي في شرحها
للشيخ. فقد
أضحى الان
متفقا تماما
مع وجهة نظر
رئيس الدير
والراهب
المنجم
القائلة بأن
هذا الكسوف
نذير بوقوع
انقلاب رهيب
في
الامبراطورية
العثمانية،
اذ سيهب
المسيحيون في
وجه الكفار،
وستشتعل حرب
في الشرق كله،
وان الرب
سيبتلي لبنان
بمحن لا عين رأت
ولا أذن سمعت
من قبل،
وستبلغ سيول
الدماء حدا،
على حد قول
الرئيس
المضطرب،
"يجعل العين لا
ترى الا قمم
الجبال فوق
أنهار الدم".
ومضى كل من
المشاركين في
الحديث يضيف
سمة جديدة الى
هذه النبوءة
القاتمة، حتى
بعثت فيهم حتمية
وقوعها صيحات
استرحام
وآهات ثقيلة
ممضة. وحين
أفرغوا
الابريق
غادروا
المكان مسكونين
تماما برعب
تخيلاتهم
ورعب ما بثه
كل منهم في
صاحبه.
كنت أضحك ملء
قلبي من قلة
عقلهم، وعبثا
ما بذلت في
تالي الايام
من محاولات
لثنيهم عن
ايمانهم
بالشبح الذي
صنعوه
لأنفسهم. وسرعان
ما ترسخ هذا
الايمان في
الجبال.
لسوء حظ
هؤلاء
المساكين – لا
العقل السليم
– اندلعت
أواخر تلك
السنة ثورة في
اليونان،
وانهالت
اوائل السنة
التالية على
منطقة
الموارنة
تدابير عنيفة
ضارية فرضتها
الحكومة
التركية على الرعايا
المسيحيين
بكل ما تنطوي
عليه من وطأة
التزمّت
وثارات الناس.
وأغرق الوالي
التركي
الرهيب
جبالهم بدماء
الابرياء
ودموعهم.
ثم التقيت في
القاهرة بعض
معارفي من سوق
الكبير الذين
فروا من سيف
عبدالله
الفظيع.
فكانوا يسألونني:
- ماذا
تقول يا خواجة
يوسف! ما رأيك
بالكسوف! ألا
تذكر كيف كنت
تجادلنا؟
وردا على ذلك
كنت أمد يدي
الى جيبي
فأتناول منه
صدقة متواضعة
لسد رمق هؤلاء
الذين كانوا
قبل مدة قصيرة
يكرمونني في
بيوتهم بسخاء.
فكانوا
يحاولون
تقبيل طرف
ثوبي.
يبدو وكأن
الطبيعة
نفسها تحاول
بالاتفاق مع مصائر
جنسنا البشري ترسيخ
ايمان
الانسان
بالتطيّر. ولم
أستخلص من هذا
الحدث الذي
وقع أمامي ما
أضيفه الى
خبرتي
الشخصية الا
فائدة وحيدة
هي انني كنت
شاهد عيان على
العملية التي
تؤلف الطبيعة
والقدر خلالها
ضلالاتنا،
ويبقيان
الشعوب في
الجهل.
(أو.إ.
سينكوفسكي
"المؤلفات".
سانت بطرسبورج
– 1855)
(1) الكلمات
المكتوبة بخط
مائل ترد في
النص الروسي
مكتوبة كما
تنطق
بالعربية – م.
(2) ماسوني – م.