الغاء الطائفية السياسية: منعاً للطغيان أو الإنفصال أو التقسيم
المسيرة، 15-2-2010، العدد 1263

جان
بيار قطريب*

يأتي هذا المقال في سياق دعوة الأستاذ أنطوان نجم في مجلة المسيرة (العدد 1258) الى فتح النقاش في النظام الفدرالي في لبنان، وأن تكون "المسيرة" منبراً لهذه الغاية. بعد الجدل والنقاش القديم-الجديد في موضوع إلغاء الطائفية السياسية الذي أعاده الرئيس نبيه بري الى الواجهة، كان لا بد من مقاربة موضوعية لهذه المسألة بعيداً عن العواطف والغرائز، لأن المطلوب هو تحديث الدولة وتطوير نظامها السياسي، بما يضمن مقدار المستطاع من السلام والعدالة الإجتماعية والإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي.

أولاً، يجب التمييز بين النظام الطائفي السياسي في لبنان والحالة الطائفية. هدف النظام الطائفي السياسي هو تأمين المساواة والعدالة في مجتمع متعدد ثقافياً، لئلا تشعر أي طائفة بالغبن أو بالتهميش، والعيش معاً "مختلفين ومتساوين" كما يقول الأستاذ أنطوان نجم؛ مختلفين في هويتنا المجتمعية كمجموعات ثقافية-تاريخية، ومتساوين في حقوقنا وواجباتنا كلبنانيين. مقاربة الإختلاف أو "حق الإختلاف" هنا، هو من باب التمايز وليس التمييز. 

يعكس اعتراف النظام سياسي بالإختلاف طابعه الديمقراطي.  فمن سمات الأنظمة الديمقراطية والمتطورة إحترام الخصوصية والتنوّع داخل حدود الوطن والتعاون مع الجوار أو الخارج؛ بعكس الأنظمة السلطوية التي تقوم على القمع بالداخل لكل أشكال التنّوع مع العداء للخارج.

الطائفية، كواقع مجتمعي، هي حالة انتمائية ليس فقط في لبنان إنما في الشرق الأوسط ككل. ان طبيعة المجتمع اللبناني والعربي والشرق أوسطي، هي طبيعة طائفية وذلك منذ قرون. حيث الهوية المطلقة هي هوية دينية والإنتماء المطلق هو انتماء ما "دون وطني" مجتمعي. والجدير بالذكر أن هذه المجموعات الثقافية، أو الطوائف، وجدت قبل دولة لبنان بحدودها الراهنة. الإمبراطورية العثمانية اعترفت بوجوب أخذ "الطوائف" اللبنانية في الإعتبار في التركيبة المحلية، السياسية والإدارية، لحكم البلد واستقراره، وذلك عند القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن العشرين. واذا كانت الطائفية واقعاً سوسيولوجياً، فالنظام الطائفي السياسي، هو نصوص دستورية وقانونية وتنظيمية وأعراف، تهدف الى تنظيم هذه الحالة الانتمائية على قاعدة العدالة والمساواة.

ما هي اذن أهم الأسباب التي قوّضت هذا النظام وأدت الى الأزمات المتعاقبة وعدم الإستقرار في مراحل عدة من تاريخ لبنان؟

عملياً، يمكننا التوّقف عند سببين أساسيين. الأول يتعلق بطبيعة الحكم المركزي في ظل مجتمع تعددي، حيث تكون النتيجة أحد الخيارين:

- اما نظام ديكتاتوري، حيث تقمع السلطة المركزية اتجاهات النفور (واقع العراق تحت حكم صدام حسين)

- أما دولة فاشلة بحال لم تقوّ السلطة المركزية على السيطرة على قوى النفور. (واقع لبنان الذي يتأرجح مرة كل عشر سنوات تقريباً بين الشلل السياسي والمواجهة الداخلية الدموية).

أما السبب الثاني، الذي أدى الى اخفاق هذا النظام والذي يرتبط بمحدودية الحكم المركزي، هو الممارسة السياسية الى تتراوح ما بين الزبائنية، والفساد، والمحسوبية...

هل من بديل اذاً من هذا النظام؟ بعد إلغاء الطائفية السياسية؛ هل الحل هو في نظام علماني؟ وماذا عن ظروف نشأة النظام العلماني ومدى ملاءمته مع الواقع اللبناني.

العلمنة في تعريفها العام هي فصل الدين عن الدولة وعدم تدخل هذه الأخيرة بمعتقدات مواطنيها الايمانية وصونها حق ممارسة الشعائر الدينية. تقوم الأنظمة الديمقراطية العلمانية ليس فقط على احترام حق كل فرد في حرية الضمير والدين، وإنما أيضاً حرية المعتقد، للفرد المُلحد أو للذي يرغب بالخروج عن القيد الطائفي كما نصت عليه المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).

مما لا شك فيه أن العلمنة في أوروبا بشكل خاص نتجت عن عملية تراكمية وتطور تاريخي بدأ في عصر النهضة وصولاً الى عصر الأنوار، حيث أصبح الفرد قيمة بحد ذاته والمكّون الأساسي للمجتمع.

ولدت الدولة العلمانية في الغرب بعد قرون من الصراع بين الشعب ومراكز السلطة السياسية الأساسية في المجتمع: الملكية والإقطاعية والكنيسة. وقد ادت هذه الصراعات أما الى القضاء على النظام الملكي والاقطاعي، أما الى تفريغه من سلطته السياسية. وأدت كذلك الى فصل نهائي بين الدين والدولة، والى تجريد الكنيسة من سطوتها على الحقل السياسي.

وفي الوقت التي كانت تشهد أوروبا هذا التطور، كانت منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن هذه التحولات والثورات الفكرية التي صاغت وطورت مفهوم المواطنية  (Citizenship) بدلاً من الرعية (Subject).

بالتالي، وبسبب هذا التباين والإختلاف في المسار التاريخي، هناك عقبات كبيرة أمام نجاح العلمنة، ليس فقط في لبنان، وإنما في الشرق الأوسط ككل. إن ما يصلح للغرب، وعلى الرغم من نجاحه ، لا يصلح في الضرورة في الشرق.

فمنطقتنا التي لم تشهد ثورتها الفرنسية أو الأميركية الخاصة، لا يمكن إسقاط مفاهيم معينة عليها، من دون أخذ الخصوصية  التي تتمتع بها في الإعتبار.

النظام السياسي في أي بلد، يجب أن يعكس طبيعة المجتمع ويعبّّر عن تاريخه وثقافته وحضارته. 

ان الغاء الطائفية السياسية في لبنان، في ظل وجود الطائفة كوحدة إجتماعية-سياسية، يؤدي الى خلل في نظام الضبط والتوازن (Checks and Balances) بين المجموعات، ذلك أن الضبط والتوازن يشكلان أساساً للهيكلية الديمقراطية وثقافتها.

وعليه، فإن الغاء الطائفية السياسية، يؤدي الى تصفية تدريجية للمجموعات الأضعف ودمجها على رغمها في إطار المجموعة الغالبة، خصوصاً إذا كانت هذه المجموعة الغالبة متفوقة عسكرياً أو مالياً أو ديمغرافياً على غيرها.

ناهيك بأن غياب حكم القانون ومفهوم المواطنة، والنظام القضائي النزيه والمستقل وغياب المساواة الفعلية أمام القانون، لا يسمح بضمانة حقوق وحريات المجموعات في معزل عن النسب أو الحصص المخصصة لها دستورياً.

أستناداً الى ما تقدم، ليست الطائفية السياسية شراً مطلقاً، ولا خيراً مطلقاً. بل المسألة منوطة بسبل ممارستها، إذ قد تؤدي الى التعاون والتضامن والتفاهم من جهة، وقد تؤدي الى مزيد من الاشتباك والاصطدام والخلاف من جهة اخرى.

وإذا كانت الغاية المنشودة هي الغاء الطائفية السياسية، نرى ضرورة أن يواكبها الانتقال الى نظام فدرالي!

إن الحل الفدرالي يسمح في الوقت نفسه بإقتسام وتوزيع السلطة والنفوذ بين حكم مشترك فدرالي مركزي من جهة وحكم ذاتي مناطقي من جهة أخرى، مما يؤمن التعاون في السلطة المركزية وضمان خصوصية المجموعات المختلفة في الوحدات المكوّنة (مقاطعة، ولاية، كانتون...)، ويمنع طغيان مجموعة على أخرى، والإنفصال أو التقسيم، كما ويحوّل الصراع بين وحدات الدولة المركزية الى تنافساً بينها.

صحيح أن النظام الفدرالي لن يحل كل مشاكلنا، لكن على الأقل يسمح لنا بتنظيم خلافاتنا والبحث للخروج منها بطريقة اكثر فعّالية وأكثر سلمية.

يجب أن يدورالنقاش اليوم على إيجاد النظام الأفضل لإدارة التنّوع وليس للقضاء عليه. فلتتقدم كل جهة بطروحاتها من دون مناورة أو مواربة وليفتح النقاش.

حالياً، وإذا اردنا فعلاً البدء بتحديث قوانيننا بما يتماشى مع حقوق الإنسان وحرياته، فلا بد من أن نضع تشريعاً مدنياً اختيارياً للأحوال الشخصية بشكل يسمح للمواطن بالزواج المدني الى جانب تسجيله على قيد انتخابي غير طائفي. ومنها أمور أخرى.

*جان-بيار قطريب، ناشط في مجال حقوق الإنسان وباحث سياسي.