سوسيولوجيا الأزمة الايرانية

قراءة في مدلولات الحركات المعارضة

بقلم/شارل شرتوني *

 

"السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد بالمطلق" (لورد أكتون)

 

بحثاً عن الوقائع والمفردات

إنّ المشاهدات الايرانية الراهنة ما هي الا تظهيرات لأزمات عديدة تعتمل في الداخل الايراني منذ بدايات الثورة وعلى غير مستوى. فمن المفارقات النافرة التي تعيشها الثورة الايرانية بين مرجعياتها الدينية ومؤسّساتها الجمهورية، الى الادعاءات المساواتية وواقع النخب الاوليغارشية التي خرّجتها، والمزاعم الاصلاحية والتغييرية المتناقضة مع ممارسات أسّست لأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وبيئية حادّة، وصولا الى سياسات النفوذ التي دفعت في اتجاه القطيعة مع المجتمع الدولي والعزلة  كبديل وظيفي عن الاصلاح الداخلي، غير مؤشّر عن تبلور هذه الديناميكيات النزاعية على مدى طويل.

 

إنّ الحركات المعارضة التي دفعت بها الانتخابات الأخيرة وما ظهّرته من تناقضات، قد استعادت كلّ هذه العوامل مجتمعة ليس فقط من أجل التصدّي لعملية التزوير التي طبعت الاتتخابات الرئاسية، بل لتظهير حقيقة هذه المفارقات وبلورة واقع التآكل الذي يصيب شرعية الثورة الاسلامية ويظهر فراغ مضامينها. إنّ المعارضة التي اسحثّتها الانتخابات الاخيرة ما هي إلاّ المفاعل لأزمات عديدة ومتداخلة لم يقوَ النظام على حجبها أو تعطيلها أو إزاحتها في اتجاه الخارج الاقليمي والدولي. ضف الى ذلك، أنّ الأزمة الراهنة قد بلورت ضمن نطاقها الايديولوجي والمذهبي والاستراتيجي مأزق "إلاسلام السياسي"، الذي طرح نفسه منذ نهاية الثمانينات كبديل اصلاحي في المديين الاسلامي والعربي، وما لبث أن تبيّن انه لا يقلّ عنفاً وديكتاتورية وقصوراً على مستوى الرؤية والأداء الاصلاحيين عمّا سبق, معمّقاً بذلك واقع الأزمات داخل مجتمعات باتت تعاني من تكاثف المشكلات السياسية والحياتية والبيئية، الى حدّ جعل منها بؤر عنف عدمي ودوّامات نزاعية مغلقة على كل أداء تغييري فعلي.

لا بدّ أيضًا من قراءة الواقع الراهن للأزمة الايرانية على خطّ التداخل بين الازمة البنيوية في الداخل ومفارقات سياسة النفوذ الايرانية في الخارج الاقليمي والدولي. إنّ هذا التداخل بين الديناميكيات النزاعية سوف يطرح اسئلة كبيرة وملحّة حول قدرة هذا النظام المصاب في شرعيته على التمادي في عملية الهروب من تناقضات الداخل في اتجاه تفعيل وتصعيد التناقضات السياسية الاقليمية، والامعان في اغراق ايران في عزلتها الدولية، والتفتيش عن بدائل لها على مستوى جغرافية سياسية وهمية، ترسمها مجموعة ديكتاتوريات شعبوية وشخصانية تتوسل ثرواتها النفطية والسلاح النووي طريقاً لانشاء نظام دولي مضاد. إنّ كوريا كيم إيل جونغ ونزويلا أوغو تشايز وملحقاتهما في بورما ونيكاراغوا وبوﻟﯿﭬﯿﺍ ... يسعون للتموضع ضمن المعادلات الدولية على قاعدة الخروج على مؤسسات المجتمع الدولي الحاضر، والهروب في إتجاه نظام "الفراغ المؤسّسي" والادّعاءات الاصلاحية الوهميّة والمضلّلة، وسياسات التخريب والممانعة وتفعيل الديناميكيات النزاعية على المستوى الدولي، وتثبيت الاقفالات داخل مجتمعاتها. إنّ السمة الابرز لهذه الانظمة هو تعاونها في مجال التفعيل النزاعي والدولي والاقليمي كبديل وظيفي عن الاصلاح الداخلي وما يتفرّع عنه من بدائل استراتيجية وسياسية على مستوى العلاقات الدولية .

 

إنّ متابعة المعارضة لتحرّكاتها على رغم عمليات القمع التي يقوم بها "حرس الثورة الاسلامية" وتنظيم "الباسيدج"، تظهّر وعيها لعمق التناقضات التي تتفاعل داخل دوائر النظام المباشرة ولتسكّع معادلات النفوذ التي تستند اليها. كما أنها تشير الى أنّ حيوية هذه الحركة قد تجاوزت مرحلة الخوف التي يسعى النظام الى إشاعتها، ودخلت في مرحلة تصاعدية أصابت شرعيته وقدرته على تعبئة ادواته وأسّست لديناميكية تغييرية لا يُِعرَف مداها، وهذا ما ظهّرته ممانعات قائد حرس الثورة والعديد من المسؤولين الامنيين في مجال قمع التظاهرات ؛ ومعارضة محمود أحمدي نجاد للإقالة القسرية، لنائب الرئيس أصفينداري رحيم مشّائي المُعّين من قِبَله، إدانة  لبعض المظاهر الليبرالية في مسلكه وتصريحه بأن "إيران صديقة لشعوب كثيرة، بما فيها شعب إسرائيل" ؛ وتصريح رئيس مجلس النواب علي لاريجاني بأنّه لا بدّ من تطوير "رؤية نقدية ذاتية". إنّ تنامي الصراعات داخل السراي المحافظ كما نستدلّ من خلال مضاعفات إقالة مشّائي قد أظهرت مدى هشاشة التوازنات وعمق التباينات في التوجّهات والمصالح بين أطرافها. ضف الى ذلك أن النزاعات قد إندفعت في كلّ إتجاه بحيث أنها باتت تغطّي الدوائر المحافظة والمعتدلة في كلّ توزّعاتها : علي خامنئي وأحمد جنّتي مقابل محمود أحمدي نجاد وأعوانه/علي خامنئي ومحمود أحمدي نجاد مقابل مير حسين موسوي ومحسن رضائي ومهدي كرّوبي وهاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي... بالاضافة الى تصليب المنازعات بين حرس الثورة المتوجّسين من تبدّد إمتيازاتهم الاقتصادية والمالية والسياسية والمعنوية، وطبقة الملالي الذين ينافسوهم في عمليّة تقاسم الموارد والمناصب، وما ينشأ عن ذلك من علاقات ملتبسة تتراوح بين الاستعمال والابتزاز المتبادلين والتعارض المصلحيين والنزاعات المفتوحة والمبطّنة... الأمرالذي يفضح طبيعة هذه العلاقات التي تُسقِط مفهوم الخير العام وبالتالي تصيب صدقية النظام وشرعيته المرتبطتين بإيديولوجية إسلامية تستتر وراء حجاب مُثل دينية يدحضها واقع الممارسات اليومية. عداك عن الديناميكيات النزاعية التي تضع هؤلاء مجتمعين ومتفرّقين بمواجهة حركات التغيير الراديكالية التي تفرض ولو سلباً وبشكل متدرّج قواعد التموضعات الايديولوجية والاستراتيجية القادمة .

 

لقد أمسى أطراف النزاع أسرى لمواقفهم وأيّ تراجع لأيّ منهم يوازي عملية انتحار سياسي. إنّ إقرار مرشد الثورة وأتباعه بحقيقة التزوير سوف يقضي على ما تبقّى لهم من صدقيّة وشرعيّة. كما أنّ تراجع التحالف المعارض عن ممانعته وتسليمه بمطالب علي خامنئي والمتشددين، سوف يؤدّيان الى القضاء على دعمه الشعبي، ووقوعه بين أيدي نظام فاشي لا يرحم، كما تبيّنه المحاكمات المفبركة التي تستهدف شخصيّات معارضة كشيرين عبادي وشادي الصّدر ومزيار بهاري ... واﻟﺠﺍﻤﻌة الفرنسية كلوتيلد رِس، وكما بلورتها الاعترافات المملاة عنوة التي أدلى بها -نائب الرئيس السابق في عهد محمد خاتمي-  محمد علي أبطحي والتي يقرّ فيها بصحّة نتائج الانتخابات وزيف الاتهامات بتزويرها، وبأن الحركة المعارضة قد أُعِدّ لها منذ سنتين أو ثلاث من أجل الحدّ من صلاحيات  المرشد الأعلى للثورة. ضف الى ذلك ما سجّلته منظمات حقوق الانسان من أساليب تعذيب- تراوحت بين الضرب بالأسلاك الكهربائية والاحتجاز في المستوعبات تحت الشمس الحارقة ودون مراحيض، والإرهاب النفسي، وإستعمال عقاقير الهلوسة، والاغتصاب كممارسة ثابتة منذ بدايات الثورة-كما ظهّره تقرير كرّوبي-  والقتل ... - استعملت ضد المعارضين من دون استثناء، الامر الذي ادّى الى تدهور صحّة محمد علي أبطحي على نحو دراماتيكي والى شلل سعيد حجاريان -أحد أبرز مفكري المعارضة- والى وفيات جماعية لم يعرف حجمها حتى اليوم.

 

 لقد ابتدأت المعارضة بحركة مطلبية محدودة تتمحور حول عملية تزوير الانتخابات وما لبثت أن تحوّلت الى حركة شاملة تسائل شرعية النظام من الناحية الايديولوجية وصدقية أدائه سواء على مستوى الإدارة الداخلية أم على مستوى الخيارات السياسية الخارجية. إنّ ردود الفعل الاوليّة واللاّحقة التي صدرت عن مرشد الثورة الاسلامية، تنبئ أنّ سياسة التنكّر للواقع التي حكمت مواقفه تنبع من إحساسه العميق بأن الثورة الاسلامية قد أصيبت في منابتها الايديولوجية، وأنّ اتجاهات المعارضة العميقة تستهدف النظام برمّته مؤسسات ونخب وخيارات سياسية. إن عودته للشعار المؤسّس للثورة الاسلامية "غرب زاديجي" أي "صدمة الغرب" هو للدلالة  على أن نظام الملالي بات يتوجّس من مناخات التعدّديّة الفكرية ومن تنامي الليبرالية المسلكية التي تشكّل بالنسبة له التحدي الأكثر جدّية. إنّ التهديد الفظّ والمباشر الذي وجّهه مرشد الثورة الى حركات المعارضة قد أفقده الصفة التحكيمية بين مختلف مراكز القوى وأخرج الى العلن الصراع المستتر القائم بين مختلف المرجعيات الدينية والثورية.إنّ تراجعه الأخير عن اتهام المعارضة بالتواطؤ مع الخارج وزئبقية مواقفه ومناوراته يظهّرون على نحو بيّن مفارقاته السلوكية ولجوئه الى التلفيق والاتهامات الاعتباطية والمواقف المتتناقضة كوسيلة لتاْمين استمراريته وترميم شرعيته المتداعية وتمويه فقدان صفته التحكيمية.

 

لقد ظهّر ايضًا الخلاف الأبرز الذي حكم مسار الثورة الاسلامية منذ بداياتها وهو القائم بين "مراجع التقليد" و"الولي الفقيه"، وما يتضمّنه من فروقات في الرؤية حول دور رجال الدين وعلاقتهم بالسلطة الدولاتية،  وشرعية "ولاية فقيه" وأسبقيته على سواه من المرجعيات. لقد عادت المنازعة الى الواجهة عندما لجأ المرشّح المستهدف مير حسين موسوي الى مراجع التقليد، الممثّلة بآيات الله حسين منتظري وأسد الله أزنجي وعلي جولبجاني، للبتّ في شرعية الانتخابات، التي أجمع الثلاثة على اعتبارها مزوّرة ومخالفة كلياً لمعاييرالشرع الاسلامي، مناقضين بذلك رأي السيد علي خامنئي ونافين بالتالي لمرجعيته الشرعية والتحكيمية. إنّ دخول السيّد علي خامنئي في مواجهة مباشرة مع مراجع التقليد والمعارضة العلنية لتجمّع العلماء والدارسين وتجمّع العلماء المقاتلين في قمّ لسياسات التزوير والقمع التي تلت حركات المعارضة، قد أظهرت ان المشكلة تكمن داخل دوائر الثورة الاسلامية وليس خارجها. فالمعارضة لم تتكوّن بإيحاء من جهات خارجية كما حاول النظام إشاعته عندما أتّهم البريطانيين والاميريكيين والصهاينة، المعارضة تكوّنت بفعل داخلي نابع عن تبلور قناعات نقدية داخل أجنحة الثورة المتعددة، والأهمّ من كلّ ذلك تبلور حركات مدنية في كل الاتجاهات تعبيراّ عن تمدّد المساحات المستقلّة داخل المجتمع المدني.

 

الأزمة والأوجه الجديدة للحركات الديموقراطية

إنّ أطرف ما جاء في الاتهامات التي وجهها النظام للحركات المعارضة هو استرجاع المأخذ الدائم أنّها تستلهم أفكارها وأدواتها من الخارج، مشيراًُ بشكل تخصيصي الى العلاقات القائمة مع منظمّات حقوق الانسان الدولية، والتواصل الذي أمّنته التقنيات المعلوماتية (, Facebook, Blog, Twitter You Tube)  بين مختلف أجنحة العمل المدني، سواء على مستوى الأداء والتواصل الشخصيين أم على مستوى التواصل مع حركات المجتمع المدني بشقّيها الوطني والدولي. إنّ اللجوء الى مفهوم التدخّل الخارجي وتجاوز موجبات السيادة الدولاتية الايرانية، قد أدخلنا في إشكالات الحيّز الديموقراطي المستحدث الذي يمكّن الحركات الديموقراطية الناشئة داخل الفسحة المدنية من مواجهة الحكومات الديكتاتورية، وهذا ما شهدناه بشكل بارز في ايران. إنّ الحيّز الديموقراطي المحتمل الذي دفعت به التقنيات المعلوماتية (Espace Démocratique Virtuel) قد أفسح المجال لتطوير بدائل إيديولوجية وحياتية واستراتيجية تمكينية، تساعد الحركات المدنية على بلورة أداء مستقلّ وتمتين وسائل الممانعة والمجابهة، تأسيساً لمعادلات نفوذ أكثر تكافؤاً وتمهيداً لتغيير ديموقراطي يعيد الإعتبار للحقوق المواطنية : على مستوى بلورة وتثبيت الخيارات السياسية والثقافية والدينية والحياتية التعدّدية، وإعادة التواصل بين حركة المجتمع المدني ودوائر السلطة على قاعدة التداول على السلطة، وإلغاء كلّ الآليات الدستورية (مصلحة تشخيص النظام ، مجلس الخبراء ...) التي تعيق حرية الترشّح والانتخاب وحركة النخب، واخيرًا لا آخرًا إعادة النظر بمسألة "الولي الفقيه" التي تشكّل العائق الأكبر أمام تطوّر مؤسّسات الجمهورية خارجاً عن وصايته التي تستتر وراء فكرة العصمة الدينية لتحجب حقيقة التسلّط والاعتباط اللذين يحكمان أداءه عملاً بمقولة المؤرخ البريطاني اللورد أكتون "السلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد بالمطلق".

 

إنّ هذه الادانة المتوترة للحيّز الديموقراطي المحتمل ونسبته الى المداخلات الغربية، ما هو إلاّ تعبير عن واقع الانقطاع النفسي الذي يطبع علاقة ديكتاتورية الملالي مع العولمة ومع الواقع المجتمعي الايراني، الذي يعيش من خلال تقنيات التواصل المستحدثة في حالة تعاط يوميّة مع المناخات الليبرالية والديموقراطية التي تمتاز بها المجتمعات الغربية والتي أصبحت المَعين القيمي واللوجستي للحركة الديموقراطية داخل إيران. هذا حتى لا نغمط ما للتواصل القائم بين المجتمع الايراني والمهاجر الإيرانية من تأثير حاسم في بلورة الخيارات الديموقراطية وتنامي المناخات الليبرالية والقدرات العملانية داخل الفسحة المدنية.

 

ضف الى ذلك أنّ السينما الايرانية كما تظهرها أعمال عباس كيورستامي ومحسن مخملباف وجعفر بناهي وداريوش مرجوي ومجيد مجيدي وسميرة مخملباف وميترا فارحاني ومحمد حجيجة ومهزان محمّدي ... قد أصبحت من أهمّ المصادر من أجل توثيق طبيعة الازمات الكيانية الحادة التي يعيشها المجتمع الايراني، وتطوير الرؤى النقدية والبدائل في المسالك الحياتية (Alternative Lifestyles) التي تنتجها المسامّ الحيّة للمجتمع المدني الايراني. إنّ ابراز السينما الايرانية لواقع الأزمات الحياتية على تنوّع موضوعاتها، ولسياسات التنكّر للواقع والقمع الذي تعتمده المؤسسة الدينية الحاكمة، قد طاول ليس فقط الحياة السياسية ، بل الحريّات العامة والخاصة والحقوق الأساسية على حدّ سواء. لقد ظهّرت السينما الايرانية بشكل لافت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والنفسية والمعنوية الخانقة التي تعيشها الأوساط الاجتماعية المختلفة ... ناهيك عن إسهامها  في ابراز أشكال التمييز الجنسي والديني والحياتي والإتني كما يتبلور من خلال تثبيت المعازل الذهنية والنفسية والاجتماعية والجغرافية بين النساء والرجال، وإستهداف النخب والفاعلين في المجالين الفكري أو الإعلامي أو في أوساط المؤسسة الدينية أو في المجالين السياسي والحقوقي، ألذين يخالفون رؤية "حرّاس الثورة" و"مشخصّي مصالحها" ؛ وإحكام الطوق على حريّة العمل الفكري والفني من موسيقي وتشكيلي وسينمائي؛ واضطهاد الإقليات الإتنية والدينية والجنسية، وتسليط الأضواء على المشاكل الحادّة التي تعيشها الفئات العمرية الشّابة والمتوسّطة، التي تسعى من خلال الموسيقى والمخدّرات والمناهج الحياتية البديلة، الى حماية ذاتيتها من وطأة نظام شمولي يصادر الحياة الوجدانية والنفسية ولا يترك لها حيّزاً  للتعبير عن حيويّتها ( فيلم الملاكين لمحمد حجيجة والفيلمين الوثائقيين للمخرج الفرنسي– اللبناني سليم نصيب ).

 

إنّ الليبرالية المسلكية والفكرية الي تمتاز بها الفئات الشبابية التي تشكّل 60% من المجتمع الايراني، تضعها في حالة انقطاع شبة تامة مع ما تمثّله الثورة الاسلامية وما قامت عليه. إنّ مراهنة ديكتاتورية الملالي على التعارض الريفي– المدني في عملية تصوّرها لاحتواء المدّ الاصلاحي الذي تعبّر عنه هذه الحركات قد دحضه الواقع، لأن تمدّد المناخات الليبرالية قد طاول كل الفئات العمرية الشابة في المديين الريفي والمدني على حد سواء. ضف الى ذلك أنّ النظام الاسلامي كما سواه من الانظمة الثورية، أيّا كانت مصادرها وإلهاماتها، يبلور ايديولوجيا طهورية (Ideological Puritanism) تنسب إلى الآخرين كل الآفات، وينظر إلى نفسه كما لو أنه يعيش في حال تطابق تامة بين ما يدّعيه من مُثُل والواقع الحياتي الفعلي. إن ذهنية التنكّر للواقع وما تؤسّس له من معميات تحول بينها وبين واقع متهافت تتآكله الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والنفسية والمعنوية القاتلة.

 

لم تؤسّس الثورة الإيرانية واقعاً مساواتياً كما تدّعيه أدبيّاتها، فالاوليغارشيات التي سادت زمن الشاه استبدلت بأوليغارشيات أخرى زمن الثورة، تتألف بمعظمها من طبقة الملالي ألذين استباحوا الاموال العامة مع حلفائهم ومواليهم من تجار البازار وحرّاس الثورة الاسلامية ومؤسسة "الباسيدج"، الذين استفادوا من وضعية "قدامى مقاتلي حرب العراق"، للتأسيس لنظام حيازات وريوع طاولت كل القطاعات الانتاجية والتجارية والسياحية، الأمر الذي حوّل الدولة الايرانية الى مركز تقاطع لمراكز قوى  تتقاسم الخيرات والموارد العامة، على حساب غالبية الايرانيين الذين باتوا يعيشون في ظلّ نظام يستظلّ غطاءهم لحجب واقع الاستغلال الذي يمتاز به أداء الطبقة الحاكمة. إن واقع الفساد المتفشّي والاقتطاع الفئوي لموارد الدولة، يقابله واقع التردّي الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي يعبّر عنه تضافر أزمات شتّى، بدءاً بالبطالة المتفشّية في الأوساط اﻟﺒﺍبية 50%، ومروراً بواقع التضخّم المالي الذي يراوح حسب المصادر بين 25 و50%، ووصولاً الى واقع التدهور البيئي والتفكك الاجتماعي الذي يظهر من خلال تنامي الفقر وازدياد التفكك الاجتماعي والأسرى وتفشّي تعاطي المخدرات (4 ملايين مدمن) والتجارة الجنسية والنمو القياسي للطلاقات ...

 

لم تسع ايضاً الثورة الايرانية الى إقامة  نظام ديموقراطي مكتمل المواصفات إذ أنها قضت على صدقيتها الديموقراطية منذ البدايات، عندما بادر الملالي الى تبديد التحالف العريض الذي انطلقت منه الثورة في معارضتها لنظام الشاه، لحساب ديكتاتورية "الولي الفقيه" الذي ابتدع  آليات دستورية معطّلة للمؤسسات والاداء الديموقراطيين، فالمشاركة السياسية لا تقام على قاعدة المساواة  المواطنية بل على قاعدة الولاءات المتحرّكة  التي تفرضها مصالح النظام المتقلّبة. فأيّ مخالفة لإملاءات النظام تسقط الأهلية السياسية والمدنية لصاحبها وتصيب حصانته. إنّ قواعد التمييز التي استحدثتها طبقة الملالي من "حرس الثورة" و"الباسيدج" وتجّار البازار، قد أسّست لدوائر سلطوية مغلقة ونافية لأي شكل من اشكال الممارسة الديموقراطية، التي تشترطها مبادىء المواطنية.

       

لقد حرصت المعارضة الحاضرة منذ بدايات تحرّكها على تظهير التزامها بالمسلّمات الأساسية للثورة الاسلامية وذلك حؤولاً دون إتهامها بالخروج عن الشرعية التي تمحضها. إن استعمال مقولة "الله أكبر" بالاضافة الى كونها مفاعلاً لغوياً فاعلاً ، تشكّل أيضًا مرجعية نافية لكل صفة مطلقة أو عصمة يدّعيها النظام لذاته، فـ "الله أكبر" من أية مرجعية مهما كبرت ادعاءاتها. هذا ما أشار اليه آية الله حسين منتظري عندما اعتبر عقيدة "الولي الفقيه" شِركًا. إنّ حرص مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي ومحسن رضائي وهم المرشّحون الثلاثة لرئاسة الجمهورية على تأكيد التزاماتهم داخل الثورة، ولكن هذه المرّة ليس عن طريق التسليم بدور مرشد الثورة كمرجعية شرعية وتحكيمية - أسقطت ذاتها بفعل الانحياز الارادي - بل عن طريق الاحتكام الى إجماع مراجع التقليد الذين بتبنّيهم لحركات المعارضة أظهروا رفضهم لسلطة "الولي الفقيه"، والتزامهم بمبدأ وواقع تعدّدية المراجع والآراء الشرعية كضمانتين للمناخات الديموقراطية. إنّ الخلاف الذي وقع داخل المؤسّسة الدينية هو مِعلَم أساسي في مجال تقدير حظوظ نجاح المدّ الديموقراطي الاخير. إنّ الاصرار على مبدأ الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية هو مدخل اساسي من اجل دخول الثورة الايرانية في سياق ديموقراطي فعلي. إنّ الانقسام الذي حدث منذ بدايات الثورة بين علماء الحوزة الحريصين على استقلالية المؤسّسة الدينية والخطّ الذي دفع  به الإمام الخميني القاضي بتداخل السلطتين، يواجه مرة أخرى بتحدّ كبير بعد انقضاء ثلاثين عاماً على الثورة، وذلك بعد أن تبلورت المفاعيل السلبية للتداخل بين السلطتين على مستوى استقلالية عمل المؤسّسة الدينية وإستقامة إداء المؤسّسة الدولاتية.

 

إنّ الصدام القائم لن تلغى مفاعليه بفعل ضرب عصي "الباسيدج" وأعمال التعذيب في السجون، ولا تهديدات "الولي الفقيه" التي أصابت صدقيته بالصميم، وكشفت الوجه الحقيقي للسلطة التي تستتر وراء العصمة الدينية لتبرير نفوذها الاعتباطي. إنّ واقع التعارض بين مؤسّسات الجمهورية وما تفرضه من آليات ديموقراطية وأداء "الولي الفقيه"، قد بدأ يتجلّى أكثر فأكثر ليفصح عن تعارض أعمق بين مؤسّسات الجمهورية ومفاهيم الثورة الاسلامية، وهذا ما عبّر عنه بشكل بليغ كلّ من السيد مصباح يزديعرّاب أحمدي نجاد – الذي اعتبر ان المرجعية الاسلامية هي الأساس وأمّا مؤسّسات الجمهورية فينبغي الإبقاء عليها صورياً ؛ ومير حسين موسوي، عندما صرّح بأنّ واقع الحال يظهر تعارضاً بين الاسلام ومؤسّسات الجمهورية. إنّ أهمّ ما يظهّره هذ الجدل القائم هو أنّ الأزمة الحاضرة ليست بأزمة مصطنعة او مُخَارِجة، بل هل في قلب الجدليات التي تعتمل في الداخل الايراني، بين واقع ثوري تتآكله التناقضات على تنوعّها وحركات مدنية تعبّر عما يختزن المجتمع الايراني من دينامكيات تغييرية واصلاحية ذات بعد ديموقراطي.

 

إنّ الدينامكية التغييرية لم تقتصر فقط على الحيّز المؤسساتي، بل تجاوزته الى أزمة الخطاب الديني الذي بات كسواه من المتغيّرات الإيديولوجية والفكرية في حالة مواجهة مع الحداثة الفكرية وتحديّاتها، سواء على مستوى البنية الداخلية لهذا الفكر أم على مستوى تفاعله مع مختلف الرؤى الصادرة عن الفكر الفلسفي والعلمي المعاصر. إنّ الطروحات الفكرية التي تتحرّك ضمن نطاق الخطاب الديني الاصلاحي المتمثّلة بعبد الكريم سروش، أو بالمقولات الفكرية المبنيّة على قاعدة القطيعة المعرفيّة (Coupure Epistémologique) التي يفترضها تموضع الفكر الديني في المجتمع المعاصر كما بلورها بشكل لافت داريوش شايغان، هي نماذج عمّا يحرّك الساحة الفكرية الايرانية من نقاشات متحرّرة وبعيدة كل البعد عن الاملاءات الايديولوجية التي تقول بها المؤسسة الدينية الحاكمة. هذا حتى لا نهمل أعمال علماء الاجتماع -المهاجرين بمعظهم- كسعيد أرجوماند وفرهاد خوسروخافار وفاريبا أدلخا وشهلا شفيق وشهلا حائري، الذين عملوا على إجراء قراءات تفكيكية لكل المباني المعنوية والآليات الاجتماعية والسياسية التي أنتجتها الثورة.

 

ضف الى ذلك العمل البالغ الأهميّة الذي قامت به شيرين عبادي (جائزة نوبل لحقوق الانسان) في مجال الدفاع عن حقوق الانسان والتصدّي للإرهاب الايديولوجي وما يتفرّع عنه من عنف رمزي ومؤسّسي يطال كلّ الاشخاص والجماعات الذين يخالفون الرؤية الايديولوجية والسياسية والحياتية للنظام. لقد سجّلت إيران، ضمن هذا السياق، أعلى نسبة للإعدامات السياسية في العالم في العام 2008 ، ثلاثماية وخمسون شخصاً (350) أعدموا لقناعاتهم السياسية، هذا حتى لا ننسى عدد مساجين الرأي والضمير كما ظهّرته بشكل فاقع الاعتقالات السياسية الاخيرة. علينا أيضاً ان نلفت النظر الى الاعدامات التي طالت المثليين الجنسيين وما نتج عن ممارسات التعذيب التي أدّت الى وفاة وإعاقة عدد من المعارضين البارزين كما أفاد الخارجون حديثاً من السجن. كل هذه الوقائع تذكرنا بأننا امام جرائم  يرتكبها النظام الاسلامي بإسم طهورية إيديولوجية تستبيح الحق بالحياة الذي يشكل القاعدة الاساس لكل مفهوم الحق الانساني كحق منشىء.

 

لا بدّ ايضاً من توضيح دور الأدب النسائي كما ظهّرته كتابات آزار نافيسي ودجاان تشادورت في بلورة زخم الحرية الضميرية وتشكّل الهوية الذاتية التي تجتاز المجتمع الايراني. ليس من الصدفة أنّ الأدب النسائي هو الذي يحمل مشروع الحريّة الوجدانية في إيران اليوم، لأنّ الديناميكية التغييرية محمولة منهم كفئة اجتماعية تسعى من خلال تحرّرها الى وضع كل النظام البطريركي السائد ومشتقّاته القيمية والمؤسّساتية والسياسية موضع المساءلة والرفض. إنّ كتاب "قراءة لوليتا في طهران" لاآزار نافيسي، هو أكبر دليل على زخم التحرّر الوجداني وسعيه الى الترجمة السياسية عبر كسر حواجز الايديولوجية الدينية ومعازلها الذهنية ، وذلك عبر التواصل مع الأدب العالمي من خلال حلقات القراءة التي نظّمتها الكاتبة ، جاعلة من فعل القراءة فعلاً شفائياً يخرج الذات من السواتر الذهنية المفروضة عليها الى رحاب الشمولية الانسانية والحريّات الفكرية والوجودية. أمّا كتابات تشادورت دجافان فتشهد على عمق التحوّلات التي يعيشها المجتمع الايراني في إتجاه بلورة أفق إنساني ونسق قيمي يتجاوزان المحرّمات الدينية وينقضانها في سعيهما لبناء فضاء قيمي وإنساني خارج عن أية مرجعية دينية. إن عمق سياق العلمنة الذي تظّهره هذه الكتابات، يؤكّد على مدى ترسّخ سياق تثاقفي

 يضع الإيرانيين في حالة تواصل مفتوحة مع كل منابت الثقافة المعاصرة. وهذا أمر لا عجب فيه عندما نتبين أن معظم هؤلاء الكتّاب والفلاسفة وعلماء الإجتماع والسينمائيين يضعون أعمالهم بالفرنسية والإنجليزية بالإضافة الى الإيرانية. هذه النزعة الإنفتاحية تؤشر الى عمق تجذّر الهويّة الحضارية الفارسية غير الإسلامية وتأثيرها على تكوّن هذه النزعة التحرّرية التي لا تقبل بمحرمات أيّا كانت، وهذا ما أكّد عليه هاشمي رفسنجاني عند كلامه عن مدينة برسيبوليس حيث دعا الإيرانيين الى الإعتزاز بعمق جذور إرثهم الحضاري. علينا أن نشير أيضا الى السينمائيتين سميرة مخملباف وميترا فارحاني حيث يبرز بشكل نافر واقع الازدواجية السلوكية في حياة الإيرانيين وما ينشأ عنه من انفصام وتفكّك سلوكي ومحاولة هؤلاء تجاوزهما من خلال صياغة تسويات عملية تحفظ هوامش التحرك وتحمي حرّية المبادرة .

 

تبرز الحرّية الوجدانية والحرص على صيانة القدرة على المبادرة وحماية الهوّية الذاتية أيضا على مستوى التواصل اليومي في حياة الإيرانيين. إنّ التواصل مع الإيرانيين كما خَبِرته هو دليل على ما أقوله، وهذا ما أكّده لي عالم الإجتماع الإيراني سعيد أرجوماند عندما إلتقيته في جامعة فرايبورغ في ألمانيا  ﺍﻷﺤﺍدﺔ- ﺼف 1 199 - وكان بصحبة وﻟدﻪ القاصرين آنذاك "داريوش" "ومينو"، فما كان منه الى أن بادرني قائلاً عند تعريفه بإبنته "مينو" ( 8 سنوات )، أنّ إسمها ليس بتصغير لإسم فرنسي، إنه أسم آلهة الشمس في الديانة الزرادشتية، وأردف على إثر ذلك بمقولة سوسيولوجية حول كيف ان النفور المتزايد من الثورة الإسلامية في اوساط الطبقة الوسطى الإيرانية، قد حدا بالإيرانيين الى اعتماد الاسماء ما قبل الإسلامية، كمؤشّر رافض للإرث والمناخات التي فرضتها الثورة. وهذا أيضا ما يفسّر أهميّة الأعياد الزرادشتية في حياة الإيرانيين وعودتها الى صدارة الروزنامة الإحتفالية رغم الحظر الرسمي، كما ظهّره فيلم "عيد النار" للمخرج أشجر فرهادي. أضيف الى ذلك طرفة اخرى شَهِدتُها في مؤتمر الدراسات الشرق أوسطية في اميركا (MESA)-خرف 1995-، حيث جرى نقاش حادّ بين مؤرّخات إيرانيات يُدَرِّسن في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس (UCLA) وبعض الإيرانيين المحافظين الزائرين، إنتهى بملاحظة جدّ معبّرة لإحداهنّ عندما قالت"عليكم قبل الخوض في نقاشات، أن تسمحوا لنا بغسل شعرنا ومن ثَمّ نتابع الكلام"، وكان في ذلك إدانة للثقافة التمييزية ضد النساء وغياب أي شكل من أشكال المساواة المعنوية والحقوقية في عملية التخاطب بين الرجال والنساء.

 

إنّ العمى الارادي الذي تنتهجه قيادة الثورة ينبع من اعتبارات عدّة تفسّرها مقولة العصمة الدينية وما تنشئه من إقفالات فكرية ونفسية تَحول دون التواصل مع الواقع ومع الآخرين، وواقع السلطة السياسية المدغمة بشرعية دينية مطلقة تمنع مقاربتها النقدية وتظهير تناقضاتها ؛ وواقع العزلة الذي تعيشه ايران مع المجتمع الدولي وما يؤسّس له من قطيعة نفسية ومعرفية ؛ وسياسة النفوذ الاقليمية والدولية التي تسخّر موارد الدولة من أجل تعزيز الدور السياسي لإيران على تقاطع مثلث يجمع بين الشرق الأقصى والأوسط والأدنى ؛ والسعي الحثيث والمؤسّسي لتطويع حركة المجتمع المدني وإحتباسها داخل السواتر الإيديولوجية العائدة للتركيبة الحاكمة ؛  وأخيرًا طبيعة المؤسّسة الحاكمة التي تتشكل على قاعدة التقاطع بين مراكز نفوذ تتقاسم مقدّرات الدولة وتعمل بالتالي على صيانة مواردها وتأمين ديمومتها مع كل ما يفترضه ذلك من سياسة ردع معنوي وفعلي، يَحول دون تمادي الحركات الاصلاحية في أيّ أداء يهدّد استمراريتها ومكاسبها.

 

أمّا المتغيّر الأخير الذي يجب تناوله في دراستنا لسوسيولوجيا التغيير في الداخل الإيراني فهو أهمية الدور الذي تلعبه إيران في صياغة المعادلات الدولية على خط التقاطع المثّلث الذي أشرنا اليه. إنّ للإعتبار الإستراتيجي دورا أساسياً وناظماً ليس فقط على مستوى الديناميكيات الإنتردولاتية في المثلث ألذي أشرنا إليه، ولكن أيضًا على مستوى حماية هذا الدور من خلال تأمين ثبات المؤسّسة الحاكمة ، وتصوير أي تعديل في بنيتها وأدائها أو طبيعة نخبها وخياراتها الإيديولوجية والسياسية والمؤسّسية، كتهديد للمصالح الإستراتيجية الإيرانية. لذا يذهب البعض في تقديرهم الى أنّ المصالح الاستراتيجية للنظام الإيراني سوف تشكّل العائق الأبرز أمام تبلور الخيارات الديموقراطية في المدى القريب. إنّ مشروع التسلّح النووي الإيراني يندرج ضمن منطق سياسة النفوذ المثلّثة النطاق والدولية الإتجاه في آن معاً، وكبديل وظيفي عن سياسات الإصلاح في الداخل وما تفترضه من خيارات ديموقراطية. إنّ سياسة النفوذ التي تستحوذ على إهتمام الطبقة الحاكمة بشكل قسري، تعلو كل الإعتبارت الداخلية وبالتالي تملي سلّم الاولويات التي تحكم المفكّرة العامة في الداخل. مما لا ريب فيه أنّ أيّ تحوّل ديموقراطي في الداخل الإيراني سوف يترتب عليه تعديل في مسار السياسة الخارجية، ينحو في إتجاه تطبيع المداخلة الإيرانية على المستوى الدولي وخروجها من واقع العزلة والهروب في إتجاه جيوپوليتيكيات وهميّة. سوف يعيد هذا التحوّل الإعتبار للأولويات الإصلاحية في الداخل ولتطبيع حياة الإيرانيين من خلال إرساء قواعد دولة القانون، القائمة على تداخل الحقوق المواطنية وحقوق الانسان.

 

إنّ اعتماد سياسة النفوذ التصاعدية كبديل وظيفي عن الإصلاح الداخلي سوف يشكل عائقًا اساسيًا في إتجاه التطبيع السياسي والحياتي سواءً لجهة الخارج أو الداخل. إنّ أبرز ما عبّرت عنه الحركات المدنية المعارضة هو رفضها لسياسات القطيعة والعزلة عن المجتمع الدولي، لما فيها من إرادة نزاعية تؤثّر بشكل أساسي على مستقبل الحركات الديموقراطية في الداخل، وتساهم في تحصين مواقع ومصالح أطراف المؤسّسة الدينية الحاكمة. إنّ التلطّي وراء سياسة  النفوذ على المستوى الإقليمي والدولي هو جزء من سياسة شراء الوقت التي يعتمدها النظام، لعلّه عبر سياسة الهروب الى الأمام وعبر تفعيل دوره داخل المثلّث الإستراتيجي يجد بديلاً عن الإصلاح الداخلي. لسوء طالعه، الإيرانيون قد أصبحوا في المقلب الآخر، فالسياسات الأﻤرياﻟة ليست في رأس همومهم ولا إهتماماتهم، الإيرانيون معنيون بتطبيع حياتهم ولن تجدي لا الشعارات الثورية ولا سياسات النفوذ في تبديل سلّم اولوياتهم. لقد برز التباين بشكل حادّ خلال المظاهرات التي جرت أخيرا" في طهران بمناسبة "يوم القدس" حيث قام العارضون باطلاق شعارات مضادّة لمواقف المحافظين المؤيّدة لجبهة الرفض الفلسطينية تقول"لا لغزة لا للبنان اْعطي حياتي لإيران" كما هتفوا  "بالموت لروسيا"التي أيّدت نتائج الانتخابات الإيرانية مقابل الهتافات الداعية" لموت إسرائيل".

إنّ محاولة المؤسّسة الحاكمة تبرير أدائها من خلال الدفع بسياسة النفوذ الى الواجهة وكأولوية لاغية أو مؤجّلة لسائر الأولويات، لن تساعد في حماية الدور الشرعي لإيران في مجال المشاركة في صياغة المعادلات داخل المثلث الإستراتيجي الآنف الذكر. إنّ المدّ الإصلاحي هو أساسي من أجل الخوض في بناء توازنات إستراتيجيات جديدة قائمة على الإنخراط المتجدّد في مؤسّسات العمل والتحكيم الدوليين، لجهة حلّ مسألة الطاقة النووية والإستفادة من الأطر التعاونية الدولية من أجل حلّ المشاكل الإقتصادية والمالية والإجتماعية والتربوية والبيئية واللوجستية البالغة الخطورة التي تعانيها إيران. كما أنّ الانخراط في شراكات استراتيجية لا مفرّ منه من أجل ضبط الاوضاع في أفغانستان والعراق وإيجاد تسوية عادلة للنزاع العربي- الإسرائيلي بأبعاده المختلفة .

 

إنّ سياسات القمع الداخلي القائمة على التنكّر لحدّة الأزمات الحياتية التي يعيشها المجتمع الإيراني ومحاولة طمسها من خلال سياسات نفوذ نزاعية قائمة على قاعدة مقولات خاطئة، سوف تمعن في تعميق الإختلالات المجتمعية وفي تصليب إغلاقات العزلة الدولية. إنّ رفض الحركات المدنية الإيرانية لهذه المعادلة المغلقة علامة نضج لافتة لمجتمع بات يعي مكامن أوهام النظام الإسلامي القاتلة ولم يعد بصدد القبول بها أو التعايش معها.

 

خلاصة في المدلولات والمفاعيل

إنّ الاجماع الذي عبر عنه المرشّحون الثلاثة بالإضافة الى الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي في رفضهم لنتائج الانتخابات ومواجهتهم  الثابتة لمرشد الثورة، مضافاً الى الإنقسام الحادّ الذي وضع السيّد علي خامنئي والمتشدّدين في صدام مباشر مع مجمل ألحوزات العلمية وكبار مراجع التقليد هو أساسي لفهم الطبيعة الداخلية لحركة التغيير الراهنة. هذا ما يؤكد أنّ الثورة الإيرانية - كما سواها من الحركات الثورية الحديثة والمعاصرة - غير قابلة للتغيير بفعل عوامل خارجية بل بحكم مضادّات تنتجها الجدليات النزاعية التي أطلقتها. إنّ ما يجري ليس بغريب عمّا إكتنف الثورة منذ بداياتها من صراعات فكرية ودينية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية. فالتحالف العريض الذي جمع تيّارات تتراوح بين اليسارات المتنوعّة والإصلاحيين الوطنيين والمدارس الدينية على تنوّع إتجاهاتها، قد أدخل المجتمع الإيراني في ديناميكية نزاعية تعدّدية، لن تقوى الديكتاتورية الدينية القائمة على إحتوائها أو تعطيلها إلى ما لا نهاية.

 

إنّ سياسة القمع على فاعليتها الظرفية لن تستطيع أن تلغي حيوّية الحركات المدنية ألتي تستمدّ قوتها من تعددية الرؤى والأساليب والنخب التي دفعت بها. ضف الى ذلك ، أنّ ﺍﻻﺧﺗﻼف ﻔﻲ  ﺍﻟﺮﺆى ﺒﯿن جيلين ﯾﺿﻌﻬم في حالة مواجهة عابرة لكل أشكال الإنقسام الإجتماعي من ريفية ومدينية وطبقية وإتنية وجنسية ودينية ومهنية … إنّ وضعية القطيعة بين الأجيال تستعيد في طيّاتها خلافات تطال الأطر المعرفية والحياتية والتعبيرية، وبالتالي فالتنكّر لعمق هذه الديناميكيات واعتماد العنف سبيلاً لإحتوائها أو تعطيلها هو من المعميات الملازمة لكلّ ديكتاتورية تتواجه مع حركات تغييرية. إنّ إحتجاب العنف الفاشي بكل ابعاده الرمزية والعملانية وراء ستار الرواية الثورية المؤسّسة، لتشريع واقع الإقفالات والفشل الذريع في إدارة الحياة العامة لم يعد نافعاً، لأن الرواية قد أفرغتها الممارسات والسنوات من مضمونها والتألق الذي لفّ بداياتها قد بَهُتَ منذ زمن بعيد، ولم يبق إلاّ العنف المؤسّسي والفساد المستشري والحكم غير المتبصّر والعاجز عن إيجاد حلول فعلية لمشاكل سياسية وإقتصادية وإجتماعية وتربوية وبيئية تخنق عافية الإيرانيين عند كل مطلع شمس. إنّ الهروب من مشاكل الداخل وما تتطلّبه من رؤية إصلاحية في كلّ المجالات، وأساليب خلاّقة من أجل دفع الديموقراطية التشاركية في مجتمع يختزن حيوية مدنية زاخرة، في إتجاه سياسات النفوذ الخارجية والتصلّب العقائدي، قد أصبح نوعاً من البلف الذي لم يعد ينطلي على الإيرانيين كما عبّرت عنه مزيّنة للشعر خلال الأحداث "تمضي الطبقة السياسية وقتها في إطلاق الاكاذيب وما علينا إلاّ تصديقها ... لقد ولّى هذا الزمن فأكاذيبهم لم تعد إلاّ أكاذيب."

 

إنّ الأحداث التي تعيشها إيران تذكّرنا بمقولة لمؤرخ الاشتراكية الفرنسي ايلي أليڤي في مجال حديثه عن تاريخ الفكر الإشتراكي : "مع كتاب الرأسمال إنقضى التاريخ الإيديولوجي للاشتراكية وابتدأ التاريخ السياسي"، الذي انتهى مع سقوط المنظومة الشيوعية في العام 1989. وهذا ما يصحّ اليوم مع التجربة الإيرانية التي شهدت مع ثورة الإمام الخميني أول تطبيق فعلي "للإسلام السياسي" الذي نشهد تداعيه المتدرّج في إيران. لقد انتهى الإسلام السياسي كيوتوﭙيا دينية ديكتاتورية عنيفة تدير واقعاً وطنياً واجتماعياً تتآكله الأزمات على تنوّع مصادرها. لقد ماتت اليوتوﭙيا وبقي واقع التصحّر والضياع المعنوي كما ظهّره عبّاس كيورستامي في فيلمه طعم الكرز (طعم كيلاس). فالجبال الصحراوية التي تلفّ طهران ما هي إلاّ الصورة المستعارة للصحراء التي تلفّ حياة الإيرانيين اليومية، كما ظهّرها الممثّل هُمَايون إرشادي بشكل خانق. إنّ اليوتوپيات آسرة وخانقة لأنها تعيش على تثبيت حالة الإنقطاع النفسي أساساً في التعاطي مع الواقع، وهنا يقع مكمنها القاتل.

 

إنّ حركة المعارضة التي تشهدها إيران لم تعد بحركة مطلبية للإحتجاج على عملية تزوير انتخابية روتينية تقوم بها الديكتاتوريات على نحو دوري لإخفاء قباحة إعتباطها وتمويه الأكاذيب التي تصوغها، حماية لشرعيتها المتداعية يوماً بعد يوم. لم تعد أيضاً حركة تغييرية بالمعنى الحصري للكلمة، بحيث أنّها تعمل لإرساء ديناميكيات مؤسّسية جديدة تأخذ بالخيارات الديموقراطية قيمًا وآليات ناظمة للحياة العامة. إنّ ما يجري في إيران ومهما كانت نتائجه الآنية هو تغيير أنموذجي (Paradigmatic Shift) يطال النسق المعرفي والإستراتيجي في العالم الإسلامي في إتّجاه أول تغيير جذري يطال ألبنيات الإنتروپولوجية في إتجاه تركيز حداثة قائمة على : إنهاء التداخّل بين الديني والسياسي (La Fin du Théologico-Politique) ؛ وإقامة الفواصل البنيوية بين الأطر المعرفية والسياسية والتعبيرية والجمالية التي تمتاز بها الحداثة ؛ وتفكيك أواصر النموذج البطريركي الذي يؤسّس لكلّ أشكال التمييز ضد النساء ؛ وتفكيك نظام السواتر والمحرّمات التي تحول دون تبلور الذاتية الفردية التي تسحقها الذاتيات الجماعية بأعرافها ومراجعها وطقوسها ومؤسّساتها وعنفها ؛ والخوض في قراءات نقدية وتاريخية وتفكيكية وتفسيرية للنصّ الديني على نحو يحرّر الإنسان المسلم من سلطة المؤسّسة الدينية ويعيد للروحانية دورها في صياغة التجربة والخطاب والبعد الإجتماعي للخبرة الدينية ؛  وإخراج المجتمعات الإسلامية من شرنقة الخصوصية الخانقة التي يستعيدها الخطاب الديني يومًا بعد يوم، إمعاناً في تعميق القطيعة النفسية والمعنوية والوجودية والسياسية مع بقية العالم غير الإسلامي ومع الأفق التجاوزي الذي نشأ مع الحداثة. فالحداثة أفق ناظم لا يمكن لأي خطاب، خاصة ديني، أن يتجاهله إذا ما اراد أن يتموضع في العالم المعاصر وأن يكتسب معقولية تجعله قابلا للفهم والتفاعل مع معطيات عالمنا وناسه. فالإسلام مدعو الى أن يخرج من الصحراء التي أنشأته (الأب ميشال الحايك)، الصحراء العربية القاحلة والحارقة، وإعتقادي في هذا المجال أنّ المَعين الإيراني كما ظهّره هنري كوربان في تحفته "في الإسلام الإيراني" هو الطريق للخروج من حرف الشريعة الى الروح، "لأنّ الحرف يميت والروح يحيي" ( بولس، كورنتس2/3-6)؛وتأسيس إجتماع سياسي قائم على التعاقد المبني على حقوق الإنسان كأفق ناظم والثقافة والمؤسّسات الديموقراطية والليبرالية الفكرية والمسلكية.

 

سوف تعطي خلاصتي إنطباعاً بأنّني مفرط بالتفاؤل وأتوسّع في قراءاتي وإسقاطاتي. الحال أنّي لست بمتفائل بنوايا المؤسّسة الدينية الحاكمة ولا بمصادرة المتغيّر الديني للحيّز المعرفي والسلوكي والتعبيري، ولا بحالة الاعياء التي يعيشها الايرانيون في كل مندرجات حياتهم اليومية من جرّاء القمع والعنف والإنغلاق والفقر وإنعدام الافق. تفاؤلي هو بالروح التي تُلهِم وتُلهِب هذه الحركات المدنية السليمة في مناخاتها وإلهاماتها وصدق المعاناة  التي تعبر عنها وجمال ومأساوية آفاقها كما عبّرت عنه الدماء السائلة من وجه ندا آغا سلطان البهي.

 "الجمال سوف ينقذ العالم" (دوستوﯾﭬسكي)، هنا يكمن سر وآلق هذه الحركات المدنية. الجمال يفضح البشاعة، بشاعة العنف الذي لا يقوى على إخفاء قباحة أعماله. لقد لبست الحركات المدنية في إيران وجه المرأة وما اقوله ليس بإستعارة، إنه حقيقة هذه المظاهرات الراقية، السلميّة، الفرحة، المتحررة، الجميلة، المفعمة بالحياة، والتي تنضح رجاء رغم ضربات عصي النظام الذكوري ( الباسيدج وحرس الثورة) المشورب والملتحي(ﻔﯿﻟﻤﻲ ﺍﻟﺩﺍئرة و  Offside لجعفر بناﻫﻲ). تكمن أهميّة هذه الحركات المدنية في تعبيرها عن الحرية الداخلية على رغم كلّ ما يحيط بها من عنف وغطرسة ومرارة المتسلّط الذي يخاف من أيّ مؤشّر يوحي بتهاوي قبضته. (Ubu Roi, A.Jarry)

ﺘﻜﻤ أهمية ما يجري في إيران ﻔﻲ كوﻬﺍ أوّل تجربة ديموقراطية في العالم الاسلامي تنبع من تربة نضالية وتعبر عن معاناة وتُفصِح عن خياراتٍ وتتبلور من خلال مبادرات تصدر عن أفراد وجماعات يستعيدون قدراتهم ويبنون امكانياتهم خطوةً خطوة. إنّ عودة "الفاعل-الفرد" (Le Retour du Sujet) كما دَرَسَه ألآن تورين في أعماله حول الحركات الإجتماعية، هو الظاهرة الأهمّ في عملية بناء السياق الديموقراطي كما ظهّرته الحركات الراهنة في إيران. إنّ الفرق بين التجربة الديموقراطية في تركيا وإيران، تكمن في أنّ الأولى قد أسقِطَت من فوق بفعل ثورة نخبوية إنعقدت حول شخص مصطفى كمال "أتاتورك" (أبو الأتراك وأبو تركيا الحديثة) وهذا ليس بحدث عابر من أجل فهم تركيا وتقدير مستقبلها مع عودة "الإسلام السياسي" الملتبسة والنزعات النيو- عثمانية إلى أفقها السياسي. أمّا التجربة الديموقراطية الإيرانية فهي صنيعة حركات مدنية تتغذّى من إرث حركات ثورية سابقة، ولكنّها تختلف كلّ الاختلاف عنها بإندراجها في قلب أهمّ ما أنتجته العولمة بوجهها البنّاء، من تعميم لثقافة حقوق الانسان وتمدّد مفاهيم الحريّات بكل ابعادها الخاصّة والعامّة، وتهاوي المعازل الذهنية والجنسية والدينية لحساب قيم إنسانية عميمة ومساواتية وروحانيات مسكونية ؛ ومبادرات تمكينية وقيم تسهم في تعميم ثقافة دولة القانون وتمدّد الليبرالية الفكرية والسياسية، وتؤسّس لديناميكيات تشاركية تبلور الخيارات الديمقراطية التي تعتمل داخل المجتمع المدني الإيراني.

 

لقد استعملت في مقاربتي مفهوم سوسيولوجيا الرجاء الذي دفع به عالم الإجتماع الفرنسي هنري ديروش من خلال دراسته لليوتوپيات الدينية في الغرب المسيحي وتأثيرها على صياغة الديناميكيات الإجتماعية التغييرية. وإستعمالي لهذا المفهوم ليس بعارض، بل فرضته علي طبيعة الحركات المدنية الإيرانية، إذ أنّه لا مجال لفهمها إن لم نع ما لمفهوم الرجاء من فاعلية اجتماعية وقدرة على تفعيل السلوك الفردي والجماعي، في إتّجاه صياغة مبادرات وتفعيل ديناميكيات تغييرية على الرغم وبسبب محظورات الواقع وإقفالاته. لا إمكانية لفهم ديناميكية التغيير في إيران اليوم ما لم نع دور وسائل التواصل المعاصرة التي دفع بها العصر المعلوماتي، في تأمين الإطار المساعد على تبلور هذه الحركات وتغذيتها بأفق منفتح على كل ما هو خلاّق وحرّ وإنساني وديموقراطي، الأمر الذي أكّد مرّة أخرى حقيقة المثل اللاتيني "ليس من شأن إنساني بغريب عني"

(Humani Nil A Me Alienum Puto).

 

إنّ أهمّية ما يجري في إيران وما يعبّر عنه من ديناميكيات سياسية وإجتماعية ليبرالية هو بعده الأنموذجي داخل العالم الإسلامي خاصة وأنّ حركات المعارضة في المدى السنّي تتطور في فضاء الاصوليات الوهّابية النافية لأيّ توجّه ليبرالي. لا ريب أنّ التربة الحضارية الإيرانية وما خرّجته من فكر ديني شيعي إئتلافي (Syncrétiste) قد ساعدا في تكوين المناخات النفسية والذهنية التي تؤهّل لسياق تثاقفي خلاّق ومعاطاة غير متشنّجة مع الحداثة. في المقابل، يصعب على أيّ مراقب للأوضاع السعودية أن يتصوّر أيّ سيناريو مرادف لما يجري في إيران، نظراً لعدم توافر التربة الثقافية المساعدة على تبلور الخيارات الليبرالية، وللدور الذي أسّست له الدولة السعودية داخل المدى السنّي العالمي ، من عربي وغير عربي ، والقائم على بثّ الإيديولوجية الوهابية وما دفعت به من قطيعة وجدانية ومعرفية ونفسية مع الحداثة ومع غير المسلمين. ضف الى ذلك ، سعيها المتعدّد الأوجه والأدوات الى الدفع بسياسة إﻤريالية يقودها اﻟﭙترو دولار والحركات الأصولية ﺍﻟﻤّﻔﺔ التي أسّستها ورعتها وما لبثت أن انقلبت عليها، كما هو الحال مع أسامة بن لادن الذي يشكّل الوجه الآخر للوهّابية السعودية. لا تنفي هذه الملاحظات حيوية النقاشات الفكرية والدينية التي تتفاعل في الاوساط السنيّة تحت تأثير الحداثة، وخاصة في البلدان الغربية حيث تبلور فكر نقدي وإصلاحي بالغ الاهمية. لكن لسوء الحظ، بقي هذا المدّ الإصلاحي نخبوياً ولم يؤسّس لحركات إجتماعية وسياسية ليبرالية مضادة للإسلام الأصولي الذي يحتبس البدائل في البلدان السنّية.

 

تنطلق قراءتي للمعاني التي ترافق الحركات المدنية المعارضة في إيران، ليس فقط من دورها الأساسي في بناء سياق تغييري فاعل بل أيضا من الدلالات التي تحملها والتوجّهات الفكرية والسياسية التحوّلية التي تؤشّر من وجهة نظر "الزمن المديد" الى تبلور أوّل تجربة تغيير ديموقراطي وليبرالي في العالم الإسلامي، تتأسس على قاعدة مراجعة جذرية للأطر المعرفية والسلوكية والسياسية فيه. هذه الحركات التي نشهدها ليست "بكمّية غبار" كما وصّفها محمود أحمدي نجاد، بل علامة فارقة سوف تتأسّس عليها إنعطافات تتجاوز الحدث السياسي، في إتجاه تأسيس نماذج جديدة للتغيير الفكري والسياسي والإجتماعي الليبرالي، ليس فقط في إيران والمدى الشيعي بل في العالم الإسلامي على وجه الإجمال. لقد أصاب أبو الحسن بني صدر – الرئيس الاول للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية الذي أجبر على التنحّي وأخذ طريق المنفى – في مقاله الأخير في النيويورك تايمز (1 آب 2009)، عندما أعتبر أن ما يجري اليوم في إيران مشابه لما جرى في العام 1979. إنّ عمل المقاومة الذي يقوم به الشعب الإيراني اليوم في حال استمراره، والمؤشّرات تنحو كلّها في هذا الإتّجاه، تظهر أنّ سياق الأحداث سوق يجعل من إمكانية تأسيس ديموقراطية فعليّة أمرًا واقعيًا. إنّ حدّة المواجهات وتناميها داخل السراي المحافظ وتمدّدها في إتّجاهات مختلفة، مضافة الى الأزمة الإقتصادية المتمادية التي تحرم النظام من موارده وبالتالي من قدرته على ترفيد محسوبياته وريوعه وحيازاته، سوف تدفع قدما بحالة التململ الإجتماعي والسياسي وتفتّح الكوّة التي يبقى من خلالها الشعب الإيراني وحده قادرا على إقرار مصير هذا النزاع وحسم مؤدّياته. لقد أصاب ايضًا بني صدر عندما سجّل واقع الطلاق المبكر الذي وقع بين مؤسّسات الجمهورية ومؤسّسة "الولي الفقيه" التي عطّلت الدستور الذي يعتبر الشعب مصدر السلطات وليس الله. بالتالي ما نشهده اليوم، من خلال هذه الحركات المعارضة، هو العودة الى القاعدة الذهبية للجمهورية التي تعيد السلطات الى الشعب الذي هو مصدرها. لقد قرّر الشعب الإيراني إستعادة المبدأ الدستوري الأوّل الذي قامت عليه الثورة الإسلامية والقاضي بعودة المؤسّسات الدولاتية (المرشد الأعلى للثورة، الرئاسة، البرلمان) الى معيار السيادة الشعبية كمبدأ ناظم للجمهورية الإسلامية على حساب مؤسّسة "الولي الفقيه"، وهو بذلك لم يخرج عن إحدى الركائز المبدئية التي قامت عليها ثورة 1979.

 

لقد دخل المجتمع الإيراني منذ زمن بعيد في ديناميكية التغيير التي نشهد اليوم إحدى أبرز محطّاتها، ولكنّ سياسة الإطباق المنهجيّة التي إعتمدها النظام حيال الشخصيّات والحركات العاملة في هذا الإتّجاه، لم تترك سبيلا إلاّ وتوسّلته، من تفعيل للتناقضات بين مراكز القوى القائمة وتحكيمها ؛ وقمع الرافضين والخارجين عن قواعد النظام واللعبة القائمة  ؛وتصعيد المجابهات مع الخارج الإقليمي والدوليّ ؛ وإستعمال الموارد الأوّلية من أجل تثبيت نظام الريوع والحيازات والمحسوبيات ؛ ومضاعفة الإقفالات الفكرية والسياسية والمؤسّساتية والمحرّمات الدينية ، كبديل عن أيّ عمل إصلاحيّ. غير أنّ هذه السياسات على فعاليتها المؤقّتة ورداءة نواياها، لم تقو على إرادة التغيير وما أنشأته من حركات مدنية وسياسية، بل عمّقت أزمة الثقة وخيبة الأمل وأدخلت المجتمع الإيراني في حالة من الأعياء والقرف تجاه كلّ ما يمثّله هذا النظام

(Politikverdrossenheit )، وباتت عملية التغيير مسألة توقيت وفرص مناسبة ليس إلاّ.

10 تشرين الأول/09