ولاية الفقيه: الأصل عدم ولاية أحد على أحد
بقلم السيد علي الأمين/مفتي صور وجبل عامل
الإثنين 15 تشرين الأول 2007
عن جريدة النهار اللبنانية
تطرق الفقهاء في بحوثهم الفقهية الى مسألة ولاية الفقيه في اطار البحث عن الاحوال الشخصية وفقه المعاملات المشتمل على الطلاق والزواج والارث والوصايا والعقود التجارية وقد استخرج الفقهاء من النصوص الشرعية مجموعة من الشروط المعتبرة في نفوذ المعاملة وترتيب الآثار المقصودة عليها.
وبعض هذه الشروط يعود الى اهلية المتعاقدين وبعضها يرجع الى العقد والصيغة اللفظية المعتمدة في عملية النقل والانتقال والزواج والطلاق وغيرهما والبعض الآخر من الشروط يعود الى الشيء الذي يقع العقد عليه.
وفي ما يعود الى اهلية المتعاقدين فقد ذكر الفقهاء اعتبار جملة من الامور منها البلوغ والعقل والرشد وهي ترتبط باكتمال الشخصية الحقوقية للفرد وصيرورته مؤهلا لترتيب الآثار على اقواله وافعاله والتزاماته في نظر العرف والعقلاء والذي اعتمدته الشريعة وأقرته في نصوص عديدة منها: "الناس مسلطون على اموالهم" و"الناس مسلطون على انفسهم"، وغيرها من النصوص الدالة على امضاء المعاملات والعقود الصادرة عن العقلاء بالارادة والاختيار. وامضاء المعاملة ونفوذها من الامور التي تقتضيها سلطنة الشخص على نفسه وامواله.
وقد لاحظ الفقهاء فقدان الاهلية في بعض الحالات لسبب من الاسباب كالغياب والصغر واليتم والجنون والسفه وعدم الرشد وغير ذلك مما اوجب البحث عن عناصر اخرى بديلة لنفوذ التصرفات والمعاملات في تلك الحالات التي تكون الحاجة فيها قائمة لاجرائها.
فماذا يصنع الصغير بأمواله؟ وماذا يصنع اليتيم ان كان يملك المال ومعاملته غير نافذة؟
وماذا تصنع المرأة التي غاب عنها زوجها وفقدت آثاره والمفروض ان طلاقها منحصر بيد زوجها؟ ومن المسؤول عن ادارة الاوقاف العامة وغيرها من الامور التي لا بد من القيام بها وحصولها دفعا لمفسدة او حرصا على مصلحة ونظما للأمر.
فمن هو الذي يتولى القيام بهذه المهمة وامثالها عند فقدان الاهلية؟
فبحث الفقهاء عن اولياء العقد في امثال تلك الحالات والاوضاع وذكروا ولاية الاب والجد على الصغير والوصي على اليتيم وولاية عدول المؤمنين للقيام بما لا بد من القيام به للصغير او اليتيم او الميت الذي لا ولي له وغير ذلك من الموارد التي يحتاج ملء الفراغ فيها الى ولي يقوم مقام فاقد الاهلية في اجراء معاملاته ونفوذها.
وفي هذا الاطار تم البحث عن ثبوت ولاية للفقيه للقيام بهذه المهمة التي يفتقر اليها الذين فقدوا الاولياء والاهلية الشرعية لاتمام معاملاتهم الشخصية وليس للولاية عليهم في آرائهم وافكارهم ومعتقداتهم واختياراتهم السياسية والحياتية الاخرى فضلاً عن الولاية على غيرهم من واجدي الاهلية والشخصية الحقوقية الكاملة ولذا قد استدل من قال بثبوت هذه الولاية الخاصة على خصوص الاشخاص الفاقدين للاهلية ببعض النصوص التي ورد فيها: "السلطان ولي من لا ولي له" او "الحاكم ولي من لا ولي له".
والمقصود من كلمة الحاكم الواردة في تعبيرات الفقهاء كما جاء في تعريفها لشيخ الفقهاء والمجتهدين المحقق الانصاري ان: "الحاكم هو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى". وليس المقصود بها الحاكمية السياسية وقد جاء في كلمات الفقهاء ان الفقيه هو ولي الغائب والصغير والذي لا ولي له وانه ولي الممتنع عن اداء الحق والدين وما شاكل ذلك وهذا يعني ان الولاية التي بحثوا عنها ليست ولاية على عموم الناس وانما هي على تقدير ثبوتها ولاية على الذين لا اولياء لهم والذين فقدوا الاهلية المعتبرة في نفوذ المعاملات لسبب من الاسباب المتقدمة ولا علاقة لهذه الولاية كما ترى بالولاية السياسية بل هي بعيدة كل البعد عن عالم السياسة والسلطة والحكم ولذلك ترى بأن الفقهاء الذين اثبتوا هذه الولاية وبحثوا عنها كانوا من الرافضين للمشاريع السياسية والولاية بمعنى السلطة السياسية وفيهم القائلون بعدم جواز الخروج على الحاكم السياسي لاختصاص ذلك بالامام المعصوم.
وقد بقي البحث عن ولاية الفقيه في هذا الاطار الفقهي المرتبط بالاحوال الشخصية القريبة من معنى الوصاية التي يتصدى لاثباتها وتفاصيلها القضاة الشرعيون اليوم في المحاكم الشرعية المختصة بالقضايا المسماة بالاحوال الشخصية كما تقدم وهي معزولة عن قضايا الفقه السياسي بالكلية. ويشهد لذلك ايضا ما عرفت ان البحث عن ولاية الفقيه جرى في سياق البحث عن ولاية الابوين على الصغير وولاية عدول المؤمنين للقيام بتلك المهمة ولا علاقة للأمرين بالولاية السياسية كما لا يخفى.
وقد قفزت هذه المسألة العلمية الفقهية الى واجهة البحث السياسي خارج الاجواء الفقهية المعهودة بعد وصول الامام الخميني الى سدة الحكم في ايران باعتباره فقيها ومرجعاً دينيا وقد استلزم وصوله الى السلطة والحكم الكثير من التصرفات التي تجاوزت الولاية فيها حدود الولاية المعروفة والثابتة في الاحوال الشخصية الى التصرف في الدماء والاموال وهي تصرفات تعتبر حسب الذهنية العامة عند الشيعة وبحسب السائد الفقهي من صلاحيات النبي والامام المعصوم او المأذون من قبلهما، فالسعي للامساك بالسلطة السياسية الذي يؤدي الى ازهاق النفوس واتلاف الاموال ومصادرتها في عصر غيبة الامام يحتاج الى المبرر الشرعي المستند الى ادلة شرعية من الكتاب والسنة.
وللاجابة عن الاسئلة المطروحة نشط البحث عن ثبوت مثل هذه الولاية العامة للفقيه وبدأت القراءات الجديدة للنصوص الدينية لتبرير الواقع الذي جرى اولا ولتعزيز سلطة الفقيه واستمرارها ثانيا من خلال اعطائها البعد الديني المؤثر في النفوس لتصبح ولايته بذلك ولاية تحمل الطابع الديني فاثبتوا للفقيه ما كان ثابتا للنبي والامام المعصوم.
اشكاليات ولاية الفقيه العامة
وقد واجهت هذه الولاية العامة للفقيه اسئلة كثيرة وولدت اشكاليات عديدة لدى الفقهاء والباحثين في اصل ثبوتها للانبياء والرسل والاوصياء فضلا عن الفقهاء في طبيعة الولاية الثابتة لهم وفي امكان انتقال هذه الولاية من الانبياء والائمة والمعصومين الى العلماء الوارثين لهم كما جاء في بعض النصوص الدينية: (العلماء ورثة الانبياء)
وجرى البحث ايضا في حدود هذه الولاية وامتداداتها على تقدير القول بثبوتها للأصل وانتقالها الى الفرع، وسنحاول هنا ان ننشر الضوء على هذه المسائل بالمقدار المتاح تاركين التوسع فيها الى مجالات اخرى. فنقول لا شك بارتباط البحث عن ولاية الفقيه بالبحث عن الدور المرسوم للأنبياء والمرسلين والائمة المعصومين والذي يعتبر بمثابة الاصل والاساس لدور الفقهاء والعلماء في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات. ولا يمكن ان يكون الدور الثابت للفرع اوسع دائرة في الصلاحيات مما هو ثابت لأصله، ولا يصح لدى الشرع واتباعه ان يزيد منصب الفقهاء وموقعهم ودورهم على مناصب الانبياء والرسل والاوصياء المعصومين ومواقعهم وادوارهم.
دور الانبياء والرسل
والمعروف عند اهل الملل والأديان والكتب السموية كلها ان الهدف الاساسي الذي يسعى الانبياء لتحقيقه في المجتمعات البشرية لم يكن بالدرجة الأولى مشروعا سياسيا هادفا الى اقامة نظام سياسي واستلام السلطة فيه وانما كان الهدف الاساسي والاولي من بعثة الانبياء وارسال الرسل وتعيين الاوصياء التربية والتعليم للناس حاملين لهم دعوة الايمان ورسالة الهداية والارشاد الى سواء السبيل واقامة الحجة عليهم باظهار الحق وبيان الطريق القويم والصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.
ويفهم هذا الهدف من خلال شواهد الآيات والروايات الكاشفة عن هذه الغاية بوضوح كقول الله تعالى: "كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس بالحق فيما اختلفوا فيه" وقوله تعالى: "... ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما... ورسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما" وقوله تعالى "وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين".
وفي الحديث المشهور عن النبي (ص): "انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق": ويؤيد هذا المعنى ما جاء في الانجيل المقدس عن السيد المسيح عليه السلام: "مملكتي ليست من هذا العالم".
وعن الامام علي عليه السلام: "فبعث فيهم (الناس) رسله وواتر اليهم انبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول...".
وقال ايضا عن آدم عليه السلام: "فاهبطه بعد التوبة ليعمر ارضه ونسله وليقيم الحجة على عباده...". ويضاف الى هذه الشواهد السيرة العامة للرسال والانبياء والاوصياء وهي دالة بوضوح على ان الهدف كان الدعوة والاصلاح بالدرجة الاولى ولم يكن السلطة السياسية حتى من الذين حملوا لقب الامامة كأبي الانبياء ابرهيم عليه السلام فهو لم يستلم سلطة ولم يقم نظاما سياسيا وقد كان داعية لعبادة الله الواحد والتزام التقوى ونبذ الشرك وعبادة الاوثان وهذا يعني ان منصب النبوة والامامة كان يغلب عليهما طابع الدعوة والرسالة وليس طابع السياسة بمعنى السلطة والدولة والحكم.
ولاية الأنبياء
وعلى هذا الأساس قال بعض العلماء والمفكرين ان الولاية الثابتة للأنبياء والرسل هي ولاية في اطار التبليغ الديني والتعليم كما أشارت الى هذا المعنى مجموعة من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: (فهل على الرسل إلاّ البلاغ المبين)، و(فإنما عليك البلاغ)، و(وما على الرسول إلا البلاغ)، (لست عليهم بوكيل)، (لست عليهم بمسيطر)، (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك الا البلاغ).
ولذلك يقال إذا كان مشروع الأنبياء مشروع تبشير وإنذار وتبليغ وتعليم وهداية وارشاد فكيف تكون ولاية الفقيه تعبيراً عن مشروع سياسي وولاية سياسية؟!
فهل يجوز ان يثبت للفقيه ما لم يثبت للرسل والأنبياء؟!
ولماذا لم يقوموا بهذا الدور في مختلف الدهور والإعصار على كثرتهم التي بلغت كما في بعض الروايات مئة وعشرين الف نبي؟!
وهل كان الفقهاء منذ عصر الغيبة مقصرين في تحمل مسؤولياتهم للقيام بهذا الدور الذي لم يقم به ائمة أهل البيت انفسهم؟!
فكيف تكون الروايات الصادرة عنهم تعطي الولاية السياسية للفقهاء في الوقت الذي لم يمارسوا فيه هم أنفسهم هذا الدور ولم تكن لهم هذه السلطة؟! وكيف يكون قول الامام الصادق عليه السلام: (أنظرو الى رجل منكم عرف حلالنا وحرامنا ونظر في احكامنا... فإني قد جعلته حاكما).
كيف يكون هذا جعلا للحاكمية السياسية للفقيه والامام الصادق عليه السلام نفسه لم يكن حاكما بالمعنى السياسي، وإذا كان هذا الدور منوطاً بالامام فهل تخلى الامام عن دوره للفقهاء؟!!
ولأجل هذا مع ما تقدم ذكره يقال بان الولاية الثابتة للفقيه هي في اطار التبليغ والدعوة المتضمن للمرجعية الدينية وهذا الدور التبليغي للاحكام الشرعية الذي تحدثت عنه هذه الروايات وغيرها تنسجم مع ما تقدم ذكره من دور التبشير والانذار الذي قام به الانبياء.
- وهذا لا يعني ان الوصول الى السلطة السياسية محظور وممنوع عليهم فإن حصلت لهم كما جرى ذلك للقليل النادر من الانبياء والاوصياء فإن الولاية الثابتة لهم حينئذ وإن كانت شاملة للولاية السياسية إما بحسب الأصل كما هو رأي بعض العلماء وإما للحالة الطارئة وهي حالة استلام السلطة السياسية كما هو رأي بعض آخر فإن هذه الولاية على كلا التقديرين لا تؤدي الى تعطيل ارادة الافراد والجماعات والغاء اختياراتهم وحرياتهم في الافكار والآراء والمعتقدات لأنها ولاية ثبتت بنص تشريعي فلا تتنافى مع نصوص تشريعية اخرى نصت على اصل الحرية ما جاء في آيات عديدة منها قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى (ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وقوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين!). وغيرها من الآيات والروايات المثبتة للحرية الدينية التي تشكل أساساً لكل الحريات الاخرى كما ورد في بعضها: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا)، و(لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).
والحاصل ان فكرة الولاية على تقدير ثبوتها لا تعني الاستيلاء والالغاء وانما هي تشريع يتكامل مع سائر التشريعات الاخرى ولا ينفيها ولا يتناقض معها، فهي ولاية لتطبيق تلك التشريعات المشتملة على أصل الحرية والعدالة وليست ولاية على إلغائها وتعطيلها.
- وبما أن الذي ثبتت له هذه الولاية العامة من الانبياء هو من المعصومين فهو لا يتجاوز الحدود المرسومة ولا يخالف الحق ولا يتبع إلا ما يوحى اليه كما في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات) (وهدوا الى الطيب من القول وهدوا الى صراط الحميد).
فإن هذه الاوصاف مع العصمة الثابتة تضمن للأفراد حقوقهم وللجماعات خصائصها وتمتنع مع هذه العصمة مخالفة الاحكام التي وضعها الله تعالى وفي اساسها الحرية للبشر والعدالة في ما بينهم كما عرفت، فهم في نظر الشريعة سواسية كأسنان المشط والنبي المرسل من عند الله يحقق هذه المساواة ويحافظ على هذه التعددية في حياة البشر على قاعدة الحديث القدسي: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)، وإنهم كما قال الإمام علي (صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، و(أن القوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق وان الضعيف عنده قوي حتى يأخذ له الحق)، فهو يعم على قاعدة أن هذه الولاية ان ثبتت له فهي ولاية حفظ ورعاية وليست ولاية استيلاء واستبداد وتسلط وغلبة واستعباد.
- واما اذا لم يكن الوالي معصوماً من الخطأ والذنب فكيف يمكن ان يعطي مثل هذه الولاية الشاملة مع انه قد يخطىء في احكامه وقد ينحاز في مواقفه وقد يحمل الناس على آرائه وأفكاره فيجعل من قومه خير الأقوام ومن جماعته افضل الجماعات وحاشيته أصدق الحواشي ويصنفهم اصنافا شتى ما انزل الله بها من سلطان ولا قام على صدقها من برهان لأنه من البشر الذين لا يمتنع في حقهم بحسب العادة صدور الاخطاء منهم والخطايا.
ولذلك وقع الكلام في امكان اعطاء هذه الولاية وثبوتها لغير الانبياء والمعصومين من البشر الخطائين وان كانوا من العلماء الوارثين.
والسبب في ذلك ان الطاعة الثابتة للانبياء لها علاقة بثبوت العصمة لهم فلا تثبت نفسها للفقهاء غير المعصومين. وهي أعني الولاية الشاملة لما كانت العصمة من أسباب ثبوتها فيجب ان تنتفي بانتفائها لأنها غير ثابتة للفقهاء، وعلى الأقل يحتمل ان تكون العصمة ذات أثر في ثبوت الولاية فلا يعلم بثبوتها عند فقدان العصمة واذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال كما يقول العلماء.
وقد اثيرت قديما مسألة الولاية والطاعة الإلهية لغير رسول الله بعد وفاته لأن الفهم السائد كان يقوم على ان هذا الحق هو من مختصات النبي لأنه معصوم ومرسل من عند الله فلا يثبت هذا الحق لمن ليس نبياً ولا معصوما.
وظهرت الافكار الرافضة لدعوة ثبوت هذه الولاية لمن يأتي بعد رسول الله والقائلة بإختصاصها به وعدم انتقالها الى غير المعصوم وقد عبر الشاعر عن هذه الاشكالية في تلك المرحلة بقوله:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر!
أيورثنا بكرا اذا مات بعده
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر!
وقد تعرض الفقهاء وعلماء الكلام لهذه المسألة أيضاً وجمهورهم بل معظمهم يذهب الى عدم انتقال تلك الولاية العامة والطاعة من المعصوم الى غيره لانها من خصائصه فما ثبت له ليس بالضرورة ان يثبت لغيره الفاقد لتلك الميزات والخصائص ولذلك ذكروا ان الامامة لا تكون لمن يصدر منه الظلم كما في قول الله تعالى لابرهيم عليه السلام عندما سأل الله ان يجعل من ذريته أئمة فقال الله تعالى له: (لا ينال عهدي الظالمين).
وقد ذكر العلامة المجتهد الشيخ محمد جواد مغنيه في هذا الصدد في كتابه فقه الامام الصادق:
(ونحن نعتقد ان المعصوم وحده هو الذي يجب اتباعه في جميع اقواله وأفعاله سواء أكانت من الموضوعات ام من غيرها اما النائب والوكيل فلا، بداهة ان النائب غير المنوب عنه والوكيل غير الاصيل وليس من الضرورة ان يكون النائب في شيء نائباً في كل شيء، وأيضاً نعتقد ان من قال وادعى ان للمجتهد العادل كل ما للمعصوم هو واحد من اثنين لا ثالث لهما اما ذاهل مغفل واما انه يجر النار على قرصه ويزعم لنفسه ما خص الله به صفوة الصفوة من خلقه وهم النبي وأهل بيته (ع) واعوذ بالله من هذه الدعوة وصاحبها) انتهى كلامه رحمه الله.
وعلى هذا الاساس يقال بعدم ثبوت الطاعة التي كانت ثابتة للمعصوم وعدم انتقالها الى الفقيه وان صار حاكما بالمعنى السياسي لأن الطاعة حينئذ لا تكون لشخصه وانما تكون طاعة الانظمة العامة والقوانين التي يتساوى فيها الحاكم والمحكوم وليست ولاية على النفس والأموال والآراء والافكار والمعتقدات فليس للحاكم ان يختزل آراء الناس برأيه وسلطته وان كان معصوما كما كان يقول الامام علي (ع) للذين ولّي عليهم: (فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق ان اخطىء... فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل ان يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل).
هذا اذا كان الحاكم معصوما! فكيف اذا لم يكن الحاكم معصوما فإن حق المعارضة والاختلاف يكون ثابتاً بطريق أولى! لأن موقعه كحاكم سياسي لا يمنحه حق الطاعة الالهية خصوصا في عالم السياسة والادارة حيث لا يختلف اختصاص الفقهاء فيها عن اختصاص غيرهم من السياسيين حتى ينحصر الرجوع اليهم فيها كما هو الحال في الاحكام الشرعية التي يكون استنباطها من اختصاص الفقهاء وحدهم فينحصر التعرف عليها بمرجعيتهم الدينية ولذلك لم يعتبر الامام علي انحصار الحاكمية السياسية بالامام او الفقيه كما جاء في رده على الخوارج قائلا: (وإنه لا بد للناس من أمير بر او فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر)، فهو لم يذكر الموقع الديني للحاكم السياسي وإنما ذكر الوظيفة المنوطة به في ادارة شؤون البلاد والدفاع عنها والمحافظة على حقوق الناس وأمنهم.
وقد ذكر في مجال آخر جملة من الاوصاف التي يجب أن تتوافر في الوالي الحاكم ليس لها علاقة بالرتبة الدينية التي يحملها حيث قال: (وقد علمتم أنه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة).
والمراد من السنة هي طريقة الحكم التي كشفت التجارب صلاحها وانتفاع الناس بها كما جاء في قوله الآخر لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر: (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية...).
ومن خلال الاشكاليات الواردة والمناقشات المتقدمة يظهر منشأ القول في عدم انتقال ولاية الانبياء والاوصياء الى الفقهاء ويظهر ايضاً عدم انحصار الولاية السياسية بهم فضلاً عن الفقهاء الذين يعتبر شأنهم في عالم السياسة شأن كل الناس الذين يتصدون للقيام بهذه المهمة مع وجود تلك الاوصاف العامة حفظاً للبلاد وصوناً لحقوق العباد وفي طليعتها حرية الاعتقاد والآراء والافكار كما ظهر ذلك من الآيات والروايات والكلمات التي نقلناها عن بعض العلماء.
ولا تعني ولاية الفقهاء على تقدير التوسع فيها لتشمل عالم السياسة انحصار الولاية السياسية فيهم كما يريد اصحاب هذا الرأي وحملة هذا الشعار فإن ذلك قول بلا مستند ورأي بلا دليل. وإن كان من شيء يسمى دليلاً فليس سوى الرغبة في تحويل هذه المسألة الفقهية الى دعوة سياسية للشخص والنظام.
والشاهد على ذلك أن هذه الولاية حتى عند القائلين بها لم تثبت لاشخاص محدّدين وإنما هي جاءت بعنوان عام شامل لكل الفقهاء والمجتهدين فيكون تخصيص فقيه واحد بالولاية دون غيره من الفقهاء ترجيحاً بلا مرجع لأن العنوان العام الوارد في الروايات والاحاديث التي استندوا اليها يستدعي ايجاد آلية تجمع كل الفقهاء من مختلف البلدان وإشراكهم في السلطة السياسية دون النظر الى جنسياتهم وانتماءاتهم وهذا ما يرفضه اصحاب هذه النظرية لاعتبارات عديدة لا تقوم على الاسس الفقهية التي قامت عليها النظرية نفسها.
- ثم وماذا عن الفقهاء القائلين بعدم ثبوت ولاية الفقيه؟ فهل تعطيهم هذه النظرية ولاية لا يؤمنون بها لأنفسهم؟! وإن سلبت عنهم هذه الولاية فهل تبقى لهم من فقاهة بعدها؟! وقد رأينا ما أصاب بعض الفقهاء المنكرين لولاية الفقيه من تشهير وإبعاد ومقاطعة وإقعاد!!
واذا كان رأي القائلين بها حجة ودليلاً فلماذا لا يكون رأي المنكرين لها حجة ودليلاً ايضاً؟! ولا يزال شعار (الموت لاعداء ولاية الفقيه) يرفع في وجه العلماء ومراجع الدين المعارضين لنظرية ولاية الفقيه حتى اثناء القائهم للدروس والمحاضرات الدينية وهذا يؤكد على أن مسألة ولاية الفقيه خرجت من إطارها الفقهي الاكاديمي واصبحت مسألة سياسية بامتياز تستهدف التأييد والانتصار للفقيه الحاكم على غيره ممن يختلف معه في الآراء والافكار.
وفي كل الاحوال فإن ولاية الفقيه السياسية لا تخرج عن كونها صيغة خاصة بالمجتمعات غير المختلطة بالاديان والمذاهب وهي مجتمعات نادرة الوجود مع أن النظرية نفسها هي محل للجدل الواسع في الاوساط العلمية ولرفض المشهور لها مع أنهم في طليعة أهل الاختصاص المؤسسين وفيهم ارباب علم الفقه والاصول واركان الطائفة ورؤساء المذهب.
وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أن الروايات والاحاديث لم تكن ناظرة الى الولاية السياسية ولا الى فكرة انحصارها بالفقهاء وإنما كانت بصدد بيان موقع العلماء في تبليغ الاحكام الشرعية والتوجيه والارشاد كما قال الشيخ الانصاري رحمه الله بعد استعراضه للروايات التي استولوا بها على ثبوت الولاية العامة للفقهاء كقوله عليه السلام (هم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وقوله (مجاري الامور بيد العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه) وقوله (أولى الناس بالانبياء أعلمهم بما جاؤوا به) وغير ذلك من الروايات القريبة من هذا المعنى وقد قال بعد ذلك: (والانصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها وذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الاحكام الشرعية لا كونهم كالنبي والائمة صلوات الله عليهم في كونهم اولى بالناس في اموالهم) انتهى كلامه رفع مقامه.
وفي كل الاحوال وعلى جميع التقديرات فإن ولاية الفقيه ليست ولاية عابرة للحدود والشعوب والمجتمعات التي لا علاقة للفقيه الحاكم بها لأنه لو جاز لهذا الفقيه ان يتدخل في قوانين وانظمة المجتمعات الاخرى لجاز لفقيه آخر من تلك المجتمعات وصل الى السلطة فيها ان يتدخل في سلطة هذا الفقيه وحينئذ يقع الهرج والمرج ويحصل الخلل في نظام العلاقات وهو أمر مرفوض من الناحية الشرعية والعقلائية ولعله لذلك يقال إن حدود ولايته كحاكم سياسي ترتبط بالمواقع والامكنة التي يكون فيها الفقيه مبسوط اليد كما يحصل ذلك عند ا ختياره حاكماً في مجتمع من المجتمعات حيث يكون حينئذ قادراً على إعمال ولايته بتطبيق الاحكام الشرعية وتنفيذها وليس له من ولاية على تشريع ما يتنافى معها أو ما يؤدي الى تعطيلها والغائها وليس له حينئذ من خصوصية توجب طاعته وامتيازه عن سائر الحكام السياسيين سوى طاعة النظام العام واحكامه التي يتساوى فيها هو مع غيره من الحكام والمحكومين الذين اختاروه حاكماً.
ويجب الاّ يبقى الفقيه هو الخيار السياسي الوحيد للأمة لعدم اشتراط الفقاهة في القيادة السياسية كما تقدم بيان ذلك من خلال سيرة الانبياء والاوصياء ومن خلال الروايات التي تحدثت عن مواصفات الحاكم السياسي. وما أشرنا اليه هو مؤدّى القاعدة التي استند اليها الفقهاء في نفس الولاية وأن الاصل عدم ولاية أحد على أحد وهذا ما ينتج عنه ولاية الأمة على نفسها كما جاء ذلك في كلمات المحقق النائيني رحمه الله عند وقوع الصراع على السلطة في ايران في بدايات القرن الماضي وانقسام العلماء الى مؤيدين لنهج المشروطة والحكومة الدستورية ومؤدين لاستمرار النهج الملكي الاستبدادي دون ادخال بعض الاصلاحات اللازمة عليه.
هذا اذا كان الحاكم معصوما! فكيف اذا لم يكن الحاكم معصوما فإن حق المعارضة والاختلاف يكون ثابتاً بطريق أولى! لأن موقعه كحاكم سياسي لا يمنحه حق الطاعة الالهية خصوصا في عالم السياسة والادارة حيث لا يختلف اختصاص الفقهاء فيها عن اختصاص غيرهم من السياسيين حتى ينحصر الرجوع اليهم فيها كما هو الحال في الاحكام الشرعية التي يكون استنباطها من اختصاص الفقهاء وحدهم فينحصر التعرف عليها بمرجعيتهم الدينية ولذلك لم يعتبر الامام علي انحصار الحاكمية السياسية بالامام او الفقيه كما جاء في رده على الخوارج قائلا: (وإنه لا بد للناس من أمير بر او فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر)، فهو لم يذكر الموقع الديني للحاكم السياسي وإنما ذكر الوظيفة المنوطة به في ادارة شؤون البلاد والدفاع عنها والمحافظة على حقوق الناس وأمنهم.
وقد
ذكر في مجال آخر جملة من الاوصاف التي يجب أن تتوافر في الوالي الحاكم ليس لها
علاقة بالرتبة الدينية التي يحملها حيث قال: (وقد علمتم أنه لا ينبغي ان يكون
الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في
اموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول
فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا
المعطل للسنة فيهلك الأمة).
والمراد من السنة هي طريقة الحكم التي كشفت التجارب صلاحها وانتفاع الناس بها كما
جاء في قوله الآخر لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر: (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها
صدور هذه
الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية...).
ومن خلال الاشكاليات الواردة والمناقشات المتقدمة يظهر منشأ القول في عدم انتقال
ولاية الانبياء والاوصياء الى الفقهاء ويظهر ايضاً عدم انحصار الولاية السياسية بهم
فضلاً عن الفقهاء الذين يعتبر شأنهم في عالم السياسة شأن كل الناس الذين يتصدون
للقيام بهذه المهمة مع وجود تلك الاوصاف العامة حفظاً للبلاد وصوناً لحقوق العباد
وفي طليعتها حرية الاعتقاد والآراء والافكار كما ظهر ذلك من الآيات والروايات
والكلمات التي نقلناها عن بعض العلماء.
ولا تعني ولاية الفقهاء على تقدير التوسع فيها لتشمل عالم السياسة انحصار الولاية السياسية فيهم كما يريد اصحاب هذا الرأي وحملة هذا الشعار فإن ذلك قول بلا مستند ورأي بلا دليل. وإن كان من شيء يسمى دليلاً فليس سوى الرغبة في تحويل هذه المسألة الفقهية الى دعوة سياسية للشخص والنظام.
والشاهد على ذلك أن هذه الولاية حتى عند القائلين بها لم تثبت لاشخاص محدّدين وإنما هي جاءت بعنوان عام شامل لكل الفقهاء والمجتهدين فيكون تخصيص فقيه واحد بالولاية دون غيره من الفقهاء ترجيحاً بلا مرجع لأن العنوان العام الوارد في الروايات والاحاديث التي استندوا اليها يستدعي ايجاد آلية تجمع كل الفقهاء من مختلف البلدان وإشراكهم في السلطة السياسية دون النظر الى جنسياتهم وانتماءاتهم وهذا ما يرفضه اصحاب هذه النظرية لاعتبارات عديدة لا تقوم على الاسس الفقهية التي قامت عليها النظرية نفسها.
- ثم وماذا عن الفقهاء القائلين بعدم ثبوت ولاية الفقيه؟ فهل تعطيهم هذه النظرية ولاية لا يؤمنون بها لأنفسهم؟! وإن سلبت عنهم هذه الولاية فهل تبقى لهم من فقاهة بعدها؟! وقد رأينا ما أصاب بعض الفقهاء المنكرين لولاية الفقيه من تشهير وإبعاد ومقاطعة وإقعاد!!
واذا كان رأي القائلين بها حجة ودليلاً فلماذا لا يكون رأي المنكرين لها حجة ودليلاً ايضاً؟! ولا يزال شعار (الموت لاعداء ولاية الفقيه) يرفع في وجه العلماء ومراجع الدين المعارضين لنظرية ولاية الفقيه حتى اثناء القائهم للدروس والمحاضرات الدينية وهذا يؤكد على أن مسألة ولاية الفقيه خرجت من إطارها الفقهي الاكاديمي واصبحت مسألة سياسية بامتياز تستهدف التأييد والانتصار للفقيه الحاكم على غيره ممن يختلف معه في الآراء والافكار.
وفي كل الاحوال فإن ولاية الفقيه السياسية لا تخرج عن كونها صيغة خاصة بالمجتمعات غير المختلطة بالاديان والمذاهب وهي مجتمعات نادرة الوجود مع أن النظرية نفسها هي محل للجدل الواسع في الاوساط العلمية ولرفض المشهور لها مع أنهم في طليعة أهل الاختصاص المؤسسين وفيهم ارباب علم الفقه والاصول واركان الطائفة ورؤساء المذهب.
وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أن الروايات والاحاديث لم تكن ناظرة الى الولاية السياسية ولا الى فكرة انحصارها بالفقهاء وإنما كانت بصدد بيان موقع العلماء في تبليغ الاحكام الشرعية والتوجيه والارشاد كما قال الشيخ الانصاري رحمه الله بعد استعراضه للروايات التي استولوا بها على ثبوت الولاية العامة للفقهاء كقوله عليه السلام (هم حجتي عليكم وأنا حجة الله) وقوله (مجاري الامور بيد العلماء بالله والامناء على حلاله وحرامه) وقوله (أولى الناس بالانبياء أعلمهم بما جاؤوا به) وغير ذلك من الروايات القريبة من هذا المعنى وقد قال بعد ذلك: (والانصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها وذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الاحكام الشرعية لا كونهم كالنبي والائمة صلوات الله عليهم في كونهم اولى بالناس في اموالهم) انتهى كلامه رفع مقامه.
وفي كل الاحوال وعلى جميع التقديرات فإن ولاية الفقيه ليست ولاية عابرة للحدود والشعوب والمجتمعات التي لا علاقة للفقيه الحاكم بها لأنه لو جاز لهذا الفقيه ان يتدخل في قوانين وانظمة المجتمعات الاخرى لجاز لفقيه آخر من تلك المجتمعات وصل الى السلطة فيها ان يتدخل في سلطة هذا الفقيه وحينئذ يقع الهرج والمرج ويحصل الخلل في نظام العلاقات وهو أمر مرفوض من الناحية الشرعية والعقلائية ولعله لذلك يقال إن حدود ولايته كحاكم سياسي ترتبط بالمواقع والامكنة التي يكون فيها الفقيه مبسوط اليد كما يحصل ذلك عند اختياره حاكماً في مجتمع من المجتمعات حيث يكون حينئذ قادراً على إعمال ولايته بتطبيق الاحكام الشرعية وتنفيذها وليس له من ولاية على تشريع ما يتنافى معها أو ما يؤدي الى تعطيلها والغائها وليس له حينئذ من خصوصية توجب طاعته وامتيازه عن سائر الحكام السياسيين سوى طاعة النظام العام واحكامه التي يتساوى فيها هو مع غيره من الحكام والمحكومين الذين اختاروه حاكماً.
ويجب
الاّ يبقى الفقيه هو الخيار السياسي الوحيد للأمة لعدم اشتراط الفقاهة في القيادة
السياسية كما تقدم بيان ذلك من خلال سيرة الانبياء والاوصياء ومن خلال الروايات
التي تحدثت عن مواصفات الحاكم السياسي. وما أشرنا اليه هو مؤدّى القاعدة التي استند
اليها الفقهاء في نفس الولاية وأن الاصل عدم ولاية أحد على أحد وهذا ما ينتج عنه
ولاية الأمة على نفسها كما جاء ذلك في كلمات المحقق النائيني رحمه الله عند وقوع
الصراع على السلطة في ايران في بدايات القرن الماضي وانقسام العلماء الى مؤيدين
لنهج المشروطة والحكومة الدستورية ومؤدين لاستمرار النهج الملكي الاستبدادي دون
ادخال بعض الاصلاحات اللازمة عليه.
***السيد علي الامين (مفتي صور وجبل عامل)