رسالة
فرنسية إلى
الرئيس
الجزائري
بقلم د. أندره
سافاللي
*ترجمة
موريس صليبا
Aug
18, 2009
كان
من المتوقع
بعد انتخاب نيقولا ساركوزي
رئيسا
للجمهورية
الفرنسية عام 2007،
أن تتكثّف
المفاوضات
بين فرنسا
والجزائر في
سبيل التوصّل
إلى إبرام
معاهدة صداقة
وتعاون بين
البلدين. غير
أن الرئيس
الجزائري كان
قد رفض
الموافقة على
مثل هذه
المعاهدة قي
أواخر عهد الرئيس
جاك شيراك قبل
أن تقدّم
الحكومة
الفرنسية اعتذارا
علنيا ورسميا
للشعب
الجزائري
وتعترف
بمسؤوليتها
عن المجازر
التي
اقترفتها القوّات
الفرنسية بحق
هذا الشعب
خلال فترة الاستعمار
وتتعهّد
بالتالي
بتقديم كل
التعويضات
المترتبة على
ذلك للجزائر.
لم
تمض فترة
قصيرة على هذا
الرفض حتى
أعلن عن وصول
الرئيس
الجزائري بوتفليقة
بشكل مفاجئ
وطارئ إلى أحد
المستشفيات
في باريس
للمعالجة. فانتهزت
بعض وسائل
الإعلام
الفرصة
للتعليق على
رفض الرئيس
الجزائري ابرام
معاهدة صداقة
وتعاون بين
البلدين وبين
لجوئه
المفاجئ إلى العاصمة
الفرنسية للإستشفاء.
فاستنكرت بعض
الصحف هذا
السلوك
المتناقض بينما
أشاد البعض
الآخر بحسن
الضيافة
الفرنسية
والعناية الاستشفائية
التي وفّرتها
الحكومة
الفرنسية
للرئيس بوتفليقة
رغم كل ما صدر
عنه من
تصريحات من
شأنها تعقيد الأمور
وتأزيم
العلاقات بين
البلدين.
من
بين كل التعليقات
التي صدرت،
هناك رسالة
مفتوحة إلى
الرئيس
الجزائري لم
تشر إليها
وسائل
الإعلام، وجّهها
إليه الدكتور "أندره
سافاللي"
(André
Savelli)
أحد كبار الإخصائيين
العاملين في
المستشفى
العسكري "فال
دو غراس" في
باريس حيث جرت
معالجة بوتفليقة
من مرض خبيث. بعد
حصول أحد مراسلينا
في فرنسا على
هذه الوثيقة
بنصّها الفرنسي،
ونظرا
لأهميتها وصدقيتها،
يسرّنا نقلها
إلى العربية
وإطلاع قراء
موقع "الناقد"
عليها وعلى ما
تتضمنه من
حقائق
تاريخية يجهلها
أو يتجاهلها
عن قصد
الكثيرون،
لأنها تدحض معطيات
تاريخية
كثيرة
زوّرتها وحرّفتها
كتب التاريخ
العربية
والإسلامية. إلى
قرّائنا
الكرام نصّ
هذه الرسالة
بالعربية.
السيّد
الرئيس،
عندما
هوّلتم براية الإهانة
الكبيرة التي
تشير إلى
اتّهام فرنسا
باقترافها
مجزرة الهوية
الجزائرية،
كنتم تدركون جيدا
أن هذه
الهويّة لم
يكن لها أي
وجود إطلاقا
قبل عام 1830. فالسيّد
فرحات عبّاس
ورفاقه
القوميّون
الأوائل اعترفوا
علنا بعبثية
البحث عنها،
وأنتم اليوم تطالبون
بالاعتذار
والندامة عن
الأعمال الهمجية.
ألستم تقلبون
الأدوار؟
في
القرن التاسع
عشر كانت
المنطقة
الجغرافية الممتدة
من ليبيا إلى
المغرب على
المحيط الأطلسي
تُعرف كلها
ببلاد المغرب
أو بإفريقيا. كانت
تسكنها قبل
القرن الثامن
شعوب من أصول
فينيقيّة
وبربريّة
ورومانيّة،
تتوزّع غالبيتهم
المسيحيية
على حوالي
خمسمائة
أبرشية، بما
فيها أبرشية "هيبون" أي
عنّابا، مركز
القديس أغوسطينوس.
آنذاك كانت كل
هذه المناطق أراض
زراعية خصبة
ومزدهرة.
هل
يمكن أن ننسى
أن العرب، أي
القبائل
البدوية الني
أتت من الشرق
الأوسط بعد
أسلمتها، غزت منطقة
المغرب وفرضت
الإسلام على
سكانها الأصليين
بقوّة السيف،
وفقا لما جاء
في القرآن السورة
الثانية
الآية 186-187 : "وقاتلوا
في سبيل الله
الذين
يقاتلونكم... واقتلوهم
حيث ثقفتموهم..."
وقد
توسّع هذا
الهدف الديني
ليشمل دوافع
أخرى مثل
الحصول على
الغنائم
والممتلكات،
والحجارة
الكريمة،
والكنوز،
وقطعان
المواشي
الحيوانية،
وكذلك "المواشي
البشرية". فجمعوا
قطعانا من
مئات الألوف
من العبيد البربر
وأخذوها إلى
الشرق
الأوسط، وهذا
أمر مبرّر في
القرآن كمكافأة
تعود
للمجاهدين في
سبيل الله،
عملا بالآية 19
و20 من
السورة
48.
وبعد
مرور عدة
أجيال من
السيطرة
والاحتلال
العربي
الإسلامي لم
يبق من ثراء
وازدهار
العهد الفينيقي
والروماني
والبربري سوى
الدمار. "حيثما
حلّ العرب
والمسلمون
حلّ فيه
الخراب"،
حسبما جاء على
لسان إبن
خلدون، تاريخ
البربر،
الجزء الأول، 1382،
ص 36-37، 40، 45-46.
هل
ينبغي أن ننسى
أن الأتراك
العثمانيين
غزوا شمال
إفريقيا
وحكموا فترة
ثلاثة أجيال
من الزمن،
محوّلين
خلالها
القبائل
العربية والبربرية
إلى أنصاف
عبيد، رغم
الدين الإسلامي
الحنيف الذي
يجمع بينهم. لقد
دفعوا تلك
القبائل إلى
التقاتل بين
بعضها بعض،
مكتفين بفرض
الضرائب
وجمعها بشتّى
الوسائل، دون
تنفيذ أي عمل عمرانيّ
بالمقابل.
هل
ينبغي أن ننسى
أن هؤلاء
الأتراك
عززوا القرصنة
البحرية
مستخدمين في
سبيل ذلك
عبيدهم من أهل
المنطقة. كانوا
يدفعون
القراصنة
البربر
لمهاجمة السفن
التجارية
الأوروبية
العابرة في
البحر الأبيض
المتوسط بهدف
الحصول على
مختلف أنواع الغنائم،
بما فيها الإتجار
بالرقيق، أي
أسر
المسيحيين
وتحويلهم إلى
عبيد.
تذكّروا،
سيّد الرئيس،
أن مدينة
الجزائر، أي "جزائر
القرصنة"،
كانت تضمّ في
القرن السادس
عشر أكثر من
ثلاثين ألف
مستعبد من
الأوروبيّين
مكبّلين
بالسلاسل،
الأمر الذي
دفع إلى
محاولات
تدمير لتلك القواعد
منذ عهد الملك
شارل الخامس،
كما تعرضت
أيضا للقصف
الإنكليزي والهولاندي
وحتى
الأميركي. فـ "البيكات" (أي
الزعماء
المحليّون المعيّنون
من قبل
الحكّام
الأتراك) في
مدينة
الجزائر
والمدن
الأخرى لم يكن
بوسعهم
الاحتفاظ
بمراكزهم دون
اللجوء إلى الاحتيالات
والقوة
والإرهاب. وكذلك
الحال مع "بيك"
مدينة قسطنطين
الذي خلعه
الفرنسيون من منصبه
بعد اعترافه
بقطع رؤوس إثني
عشر الفا
من العبيد
والأسرى خلال
فترة توليه
هذا المنصب.
هل
ينبغي أن ننسى
الإسترقاق
الذي كان
قائما في
إفريقيا منذ
زمن بعيد ما زال
موجودا حتّى
اليوم في
البلدان
العربية والإسلامية.
فالعائلات الإسلامية
الميسورة
كانت تمتلك
عددا لا بأس به من
العبيد
الأفارقة. كما
أن الأفارقة
السود أنفسهم
هم أوّل من
مارس تجارة
الرقيق، يا
سيّد الرئيس. فهم
الذين كانوا
يبيعون
إخوانهم إلى
مسلمي الشرق
الأوسط
والهند وبنوع
خاص إفريقيا
الشمالية،
وذلك خلال
قرون قبل بروز
تجارة الرقيق مع
القارة
الأميركية. وهنا تجدر
الملاحظة إلى
أن معاملة
العبيد الذين
كانوا يعملون
في المنازل في
القارة
الجديدة كانت أفضل
بكثير من
معاملتهم في
المناطق
الإسلامية.
هل
ينبغي أن ننسى
أن الفرنسيين
عند وصولهم إلى
مدينة
الجزائر
دمّروا قواعد
البرابرة العثمانيين
الذين كانوا
يمارسون
القرصنة في البحر
المتوسط، كما
حرّروا
العبيد
والأسرى فيها،
واضعين بذلك
حدّا نهائيا
للظلم التركي
الذي عانى منه
طويلا الشعب
البربري
والمجموعات
العربية
القاطنة في
شمال إفريقيا.
هل
يبنبغي
أن ننسى أنه
في عام 1830، كان
عدد الأتراك
يصل إلى حدود
خمسة آلاف نسمة،
و"الكولوكلي"
مائة ألف،
والعرب ثلاث
مائة وخمسين الفا،
والبربر أربع
مائة ألف في
منطقة
إفريقيا الشمالية
التي لم تعرف
أي تنظيم
إداري منذ
العهد
الروماني. كانت
كل قبيلة تفرض
عاداتها وتقاليدها
وتقاتل
الآخرين. وقد
شجّع
الاحتلال
العثماني ذلك
تماشيا مع
شعاره
المشهور: فرّق
تسد.
هل
ينبغي أن ننسى
أنه في عام 1830
كانت شعوب تلك
المنطقة
تعاني من
التخلّف الإقتصادي
والأوبئة
الفتّاكة
والحمّى
الصفراء. ف"الطلاب"
الذين كانوا
يمارسون
آنذاك عمل
الأطباء،
كانوا يلجأون
إلى وصفات
العالم
الكبير "أبو قرات"، أي "هيبوقراط"،
وهي وصفات
قديمة عمرها
أكثر من ألفي
سنة، رغم
تطوّر علم
الطبّ كثيرا
منذ ذلك الحين.
هل
ينبغي أن ننسى
أنه بعكس
المجازر التي
كانت ترتكب،
مثل مجزرة
الأرمن من قبل
الأتراك،
والهنود
الحمر في
القارة
الأميركية،
ومجزرة
الشعوب
الرومانية
والبربرية من قبل
العرب بين عام
700 وعام 1500، كانت
فرنسا تعالج،
بفضل أطبائها
العسكريين
أولا ثم
المدنيين
لاحقا، شعوب
منطقة
المغرب،
الأمر الذي
سمح بتزايد عدد
سكان الجزائر
من مليون نسمة
عام 1830 إلى عشرة
ملايين عام 1962.
هل
ينبغي أن ننسى
أن فرنسا
احترمت اللغة
العربية،
وفرضتها على
حساب اللغة
البربرية،
ولغة التماشيك،
واللغات
المحكية
الأخرى، كما
احترمت الدين
الإسلامي،
وهو أمر لم
يحترمه العرب
المسلمون
سابقا إذ
فرضوا بالقوة الأسلمة
على البرابرة
المسيحيين
الذين اضطروا
إلى القبول به خوفا من
الذبح وهربا
من الموت
المحتم. ومن
هنا جاءت كلمة
Kabyle ، أي
أقبل.
هل
ينبغي أن ننسى
أن فرنسا تركت
الجزائر عام 1962
رغم الاخطاء
الجسيمة
والمظالم
التي ارتكبت،
مخلّفة وراءها
شعبا ذا حيوية
ديموغرافية
متسارعة،
رغم بعض الفقر
الذي كان
قائما، كما
كانت ما تزال
بحاجة إلى بعض
الوقت كي تنقل
البلاد من مستوىالقرون
الوسطى إلى
مستوى القرن
العشرين. غير
أن فرنسا تركت
الجزائر بصحة
جيدة بفضل المؤسسات
الإستشفائية
التي
أنشأتها،
تاركة وراءها
قطاعا زراعيا
شديد
الازدهار
بفضل أعمال "البساتين
التجريبية" التي
قامت بها،
ومصانع،
وسدودا،
ومناجم،
ومرافئ،
ومطارات،
وشبكات طرق
وقطارات،
ومدارس،
ومعهد باستور،
ومستشفيات،
وجامعات،
وقطاع بريد
وهاتف. أين
كانت كل هذه المؤسسات
قبل عام 1830؟
أليست كل هذه البنى
الأساسية
الدائمة ونزع
سلاح القبائل
من القواعد
الأساسية
التي أسهمت
بنشوء مفهوم
الدولة في
الجزائر؟
هل
ينبغي أن ننسى
أن
الفرنسيّين
قاموا بتجفيف
المستنقعات
التي كانت
مليئة
بالأوبئة في منطقة
"ميتيدجا"،
مقدمين عددا
كبيرا من
مواطنيهم
كضحايا أثناء
عمليات
التجفيف،
وذلك بهدف
تحويل تلك المناطق
إلى أخصب سهول
عرفتها الجزائر،
غير أنها
تحوّلت منذ
رحيل الفرنسيين
إلى مناطق
قاحلة بائرة.
هل
ينبغي أن ننسى
أن فرنسا
أسهمت بتحويل
المؤسسات
تدريجيا من
وضعها
القبائلي إلى
مستوى الدولة،
كما سمحت
للبشر
بالتّحرر من
الإذلال إلى
حالة المواطنية
بشكل سريع. ألم
يدفع
الاستعمار
منطقة المغرب
بكاملها، من
خلال
الجزائر، إلى
الدخول في عصر
العولمة.
هل
ينبغي أن ننسى
أنه في عام 1962
أضطر أكثر من
مليون نسمة من
الأوروبيين
إلى مغادرة
الجزائر،
خوفا من القتل
أو من تحوّلهم
إلى مواطنين
من الدرجة
الثانية، أي
إلى "أهل ذمّة"،
عرضة للإحتقار
والإهانة
والتنكيد،
كما هو الحال
في بلدان
إسلامية أخرى.
وكذلك
جرى مع أكثر من
مائة ألف من
اليهود الذين
استقرّ
أجدادهم في
تلك المنطقة
منذ أكثر من
ألف سنة، أي
قبل وصول
العرب
المسلمين
إليها. فهل
كانت تلك
الحرب حرب
استقلال أم
حربا دينية؟
هل
ينبغي أن ننسى
أن بعد رحيل
الفرنسيين عام
1962، تمّ ذبح ما
لا يقل عن 57000
ناشط حركيّ
بشكل وحشيّ
للغاية، وهي
جريمة لا تغتفر
بحق
الإنسانية،
بالإضافة إلى
آلاف الأوروبيين
الذين قتلوا
أو خطفوا في
تلك الفترة
وبعدها دون
معرفة مصيرهم
حتى الآن. وهنا
لا يمكن غضّ النظر
عن التطرف
الذي مارسته
منظمة "و ا س"،
والذي أدّى
إلى مقتل أكثر
من مائتي ألف
نسمة
من الشعب
الجزائري
الذين رفضوا
نظام حكم
الحزب
الواحد، وهذا
عدد يتجاوز
كثيرا عدد
الضحايا
الذين سقطوا
خلال حرب
الجزائر.
فحرب
الاستقلال
هذه، رغم ما
رافقها من مآس
وأعمال
وحشيّة
وإرهابية من
الجانبين، هي
التي وضعت أسس
الهوية
الجزائرية. وهذا
هو منطق البشر.
السيّد
الرئيس،
تدركون
جيدا أن فرنسا
تقوم بتأهيل
أطباء متفوّقين
ومدرّسين
رفيعي
المستوى. لذلك
اخترتم،
أنتم، وكذلك
وزيركم
الأول، الاستشفاء
على أيدي
زملائي
العاملين في
مستشفى "فال
دو غراس" الفرنسي.
هل
نسيتم أن أحد
هؤلاء
الأطباء، "لوسيان بودانس"،
هو الذي أسس
أول مدرسة
للطب عام 1832 في
مدينة
الجزائر،
مشددا آنذاك
على ضرورة استقبال
الطلاب من
سكان البلاد
الأصليين في
تلك المؤسسة
وتأهيلهم.
إن
التذكير بهذه
الوقائع
البشرية قد
يدفعكم، سيّد
الرئيس، إلى الإعتراف
بأن فرنسا
غادرت بلدا
غنيّا،
وبأنها عرفت
وتمكنت من خلق
دولة مؤسسات
بفضل إشراكها
العملي لكل
فئات السكان،
من الأكثر
فقرا إلى
الأكثر يسرا،
علما أن
الفئات
الميسورة
عانت في البداية
من أوضاع إجتماعية
مؤلمة. وهكذا
خلقت فرنسا إسم دولة "الجزائر"
الذي حلّ مكان
كلمة "البربرية"
التي كانت
تطلق على تلك
المنطقة!
لا
أحد يطالبكم
اليوم بتقديم الإعتذار
عن الانهيار
الذي عرضتم له
بلدكم منذ
مغادرة الفرنسيّين.
وإلا كيف
تفسّرون
إقبال عدد
كبير من
مواطنيكم يوميا
إلى مغادرة
أرض الجزائر
أملا بالوصول
إلى التراب
الفرنسي؟
في
الواقع، ألا
تستخدمون
اليوم الماضي
المزّور
والمحوّر كي
تتمكن مجموعة
من
المتحكّمين
من مواصلة
الهيمنة
والسيطرة على
التراب
الجزائري؟
مع
تقديم
الاحترام إلى
رئيس
الجمهورية
لأني أقدر هذه
الوظيفة.
*أندره سافاللي،
أستاذ في "فال
دو غراس"،
باريس