بمن يأتمر الجيش؟

جان عزيز  - صدى البلد

الثلاثاء, 21 مارس, 2006

 من قرَّر نبش المقبرة الجماعية في وزارة الدفاع الآن، ومن قرر عكس ذلك من قبل؟

من قرر نشر الجيش حواجز متتالية لمنع المتظاهرين من الوصول الى عوكر، ومن قرر عكس ذلك يوم وصول آخرين الى الأشرفية؟

من قرر اقفال المعابر غير الشرعية على الحدود ومن لم يقرر ضبط السلاح غير الشرعي داخلها؟

نماذج أسئلة من فيض أكبر، يختصره سؤال واحد: الجيش اللبناني بإمرة من، ومن يقرر عنه وفيه؟

سؤال يستحق أن يطرح أثناء استراحة المتحاورين وبرسمهم.

الذين لم يفقدوا ذاكرتهم بعد، تعيدهم هذه الاشكالية 15 عاماً الى الوراء.

الى حفل التسلم والتسليم في اليرزة، بين وزير دفاع "الطائف الأول" ألبير منصور، وخلفه الوزير الأول في "الطائف الثاني" ميشال المر. يومها قال السلف للمر ناصحاً مستخلصاً ومختبراً: "أحذّرك من الذين يسكرون بزبيبة. والزبيبة في الجيش نجمة". لم يكن منصور في حينه يذمّ في المؤسسة العسكرية أو يتجنى عليها، وهو له فيها الكثير.

بل كان يؤشر الى أزمة العلاقة التاريخية بين "السلطتين" السياسية والعسكرية في لبنان، منذ قيامه، ومنذ قيامهما فيه.

أزمة كانت قبل دستور الطائف وقوانينه قائمة في النفوس.

واعتقد أهل الطائف الأول أنهم حلّوها. ليكتشفوا لاحقاً ان "انقلابيي" تلك الوثيقة، لم يحلوا الأزمة الأولى، بل أضافوا إليها أزمة أخرى، في النصوص هذه المرة.

يبدأ القانونيون عرض تلك الأزمة من الدستور نفسه، حيث المادة 49 الشهيرة منه، تقول ان رئيس الجمهورية "هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء"، كما انه "يرئس المجلس الأعلى للدفاع".

ماذا تعني هذه "القيادة العليا" لكل القوات المسلحة، فيما الأخيرة خاضعة لمجلس الوزراء؟

ماذا يعني ترؤس رئيس الجمهورية المجلس الأعلى للدفاع فيما السلطة الاجرائية منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً؟

انها "خزعبلة أولى" من تلك التي ضخّها انقلابيو الطائف في النظام اللبناني أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، خصوصاً وان هاتين العبارتين بالذات لم تكونا واردتين في دستور ما قبل الطائف، حيث لم يكن ثمة لزوم لهما في دستور الجمهورية الأولى الرئاسي المضمون والصلاحيات.

هذا التناقض الأول جاء ليضاف الى تناقضات قانونية سابقة، مثّلها قانون الدفاع الوطني، الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 102، تاريخ 16 أيلول 1983.

فها هي المادة 5 من القانون المذكور، تؤكد انه "يوضع الجيش بتصرف رئيس الجمهورية الذي يمارس صلاحياته وفقاً للأحكام المنصوص عنها في الدستور والقوانين النافذة...".

هذا في الأحوال العادية، أما في الحالات الاستثنائية، مثل تكليف "الجيش بالمحافظة على الأمن" في مناطق محددة ولمهل زمنية محددة، فتشير المادة 4 من القانون نفسه انه في هذه الحالة "توضع جميع القوى المسلحة (...) تحت إمرة قائد الجيش بمعاونة المجلس العسكري وبإشراف المجلس الأعلى للدفاع". وتشرح المادة نفسها ان "القوى المسلحة" يقصد بها:

"الجيش، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، وسائر العاملين في القطاع العام الذين يحملون السلاح بحكم وظيفتهم".

حتى هذا الحد تبدو "خبيصة" الطائف محصورة بين رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للدفاع الذي يرأسه، وبين مجلس الوزارء الذي يقبض على السلطة الاجرائية.

فإذا كان رئيس الجمهورية هو "القائد الأعلى" دستوراً وقانوناً، فكيف يمارس هذه القيادة؟

وإذا كان مجلس الوزراء هو السلطة الاجرائية، فكيف له أن يجسّد سلطته على القوى المسلحة من دون "القائد الأعلى" المستقل عنه؟

إلا أن "خبيصة طائفية" أخرى، بمعنى الطائف وبالمعنى الطائفي معاً، حملها قانون الدفاع نفسه، والسابق لإقرار وثيقة الوفاق الوطني.

إذ ينص في المادة 15 منه على انه "تخضع وزارة الدفاع الوطني بجميع مؤسساتها لسلطة وزير الدفاع الوطني، وهو مسؤول عن تنفيذ جميع مهامها".

هكذا تصبح المؤسسة العسكرية بجميع قطاعاتها خاضعة لسلطة وزير الدفاع.

ماذا يعني هذا الكلام اليوم؟ بكل بساطة، ثمة اشكالية قانونية في عمل المؤسسة العسكرية ووظيفتها، بين سلطة الوزير ومجلس الوزراء ورئيس الجمهورية.

وهي اشكالية كانت ممسوخة طيلة 15 عاماً ماضية، لكنها لا يمكن أن تظل كذلك في زمن ما بعد الوصاية. ففي النظام الديمقراطي يقال ان هناك دولة لديها جيش.

أما في النظام "الأقل ديمقراطية" فيكون ثمة جيش لديه دولة.