البطريرك صفير: 20 عاماً من الدفاع عن الانتماء الوطني

بقلم/جان عزيز – صدى البلد

الأربعاء, 19 أبريل, 2006

أعرف انني ضعيف، لكنني قوي بكنيستنا المارونية وبشعبنا الماروني، وكلي ثقة بأن المسيحيين سيحملون معي الصليب الثقيل، صليب الايمان، صليب المسيحية في هذا الشرق، صليب المارونية التي ألصق بها ولا يزال يلصق بها ما هي منه براء".

بهذه الكلمات أعلن النائب البطريركي العام المطران نصرالله صفير، قبوله اختياره للسدة البطريركية، قبل 20 عاماً كاملة، في مثل هذا اليوم بالذات، في 19 نيسان 1986. ومنذ اللحظة الأولى كان مدركاً للآمال الملقاة عليه. ففي اليومين السابقين لانتخابه كان الراحل الكبير الأب ميشال الحايك قد كتب له، قبل أن يعرف اسمه، رسالة عبر الصحافة، تنبأ له فيها أن يكون البطريرك الذي ينزل رعيته ووطنه عن الصليب، أو أن يكون من يرأس رتبة الدفن.

وفي اليوم التالي، في أول عظة أحد له، قال سيد بكركي الجديد: "ان الآمال المعلقة على البطريرك الجديد كبيرة. لكن الخيبة ستكون كبيرة أكثر اذا لم يتحقق شيء من هذه الآمال". وبين الاحتمالين حدد غبطته الوسيلة الحاسمة للفصل: "فلنضاعف الصلاة".

بعد 20 عاماً، صلى خلالها خليفة يوحنا مارون كثيراً، يبدو راضياً عن كل ما حققه، فيما تبدو الخيبة في غير مكان.

في الذكرى، سألناه عن انجازاته، فكر ملياً، وعاد كما كان ويبقى دائماً رجل الله والكنيسة، ليجيب معدداً أهم ما أنجز: "انتشار كنيستنا المارونية في أنحاء العالم كافة. صارت لنا أبرشيات جديدة في كل مكان وصل اليه أبناؤنا. بلغنا الأميركيتين وقارات الدنيا كلها". ماذا في السياسة؟ يعيدنا البطريرك الى "حدث" يوحنا بولس الثاني، ودعمه التاريخي للقضية اللبنانية وما أنجز بفضله. كأن ثمة توأمة روحية، كنسية وانسانية بين الرجلين المولودين في السنة نفسها، وبفارق أيام. أو كأن سيد بكركي يوحي بالمماثلة الحاضرة في ذهن كل من عرف الاثنين، بين الأب الأقدس الذي ساهم في اسقاط الستار الحديدي في وطنه الأم بولونيا، وبالتالي في "تحرير" العالم، وبين صاحب الغبطة الذي أسقط الستار المماثل في وطنه لبنان، فأعطاه الحرية والسيادة والاستقلال.

في السياسة أيضاً سيكتب التاريخ المطولات عن انجازات هذا البطريرك. هو من أدرك منذ البدء أهميتها وقدسيتها في حياة الانسان، والانسان المؤمن خصوصاً. ففي مثل هذه الأيام قبل 16 عاماً، ووسط حروب أبنائه الذاتية التدمير، خصص رسالة الصوم الكبير في 15 شباط 1990، لموضوع "الكنيسة والسياسة". هذه الرسالة التاريخية يعتبرها كثيرون امتداداً للتعليم الكنسي الجامع حول الرسالة المسيحية في المجال الزمني كما الروحي. فعلى خطى البابوات الكبار، من ليون الثالث عشر الى يوحنا بولس الثاني، مروراً بسلسلة البيوسات، كتب صفير يقول: "ان للكنيسة حقها في اصدار أحكامها على الأنظمة التي تسيّر المجتمعات البشرية، لمعرفة ما اذا كانت تتطابق والمبادئ الدينية والأخلاقية. ولا حاجة الى القول ان كل نظام يحرم الله حقه في العبادة ويناصبه العداء ويتجاهل شرائعه، لا يسع الكنيسة الا أن توجه اليه الانتقاد والتنديد". وكأنه يرسي الأساس الأخلاقي الأول لثورة الأرز الآتية بعد 15 عاماً، أضاف غبطته: "كل نظام يحتقر الشخص البشري ولا يحترم ما له من حقوق جوهرية، ويخنق الحريات الأساسية ويرتكب المظالم بحق المواطنين ويميز بينهم على أساس الدين والعرق واللغة ولون البشرة، ويزجهم في غياهب السجون ويسوقهم الى مناقع التعذيب ويريهم أنواع الذل لآرائهم السياسية المغايرة لآراء الحكام والمسلطين، فهو في نظر الكنيسة نظام فاسد جائر، لا يمكنه أن يقيد ضميرياً المواطنين بما يسنه لهم من قوانين ظالمة، ويجب بالتالي العمل على اصلاحه أو ازالته واستبداله بنظام عادل ينصف الناس ويساعدهم على تحقيق طموحاتهم المشروعة في عيش حر كريم".

ولم يتردد البطريرك في النضال لتجسيد قوله. على مدى 20 عاماً لم يسكت على ظلم ولم يستكن لتسلط لم يساير ولم يساوم ولم يناور. ظل صوت الحق والحقيقة، حتى أزال "النظام الفاسد الجائر"، أو فتح الدرب لمن يجب أن يكمل.

وفي الواقع السياسي اللبناني، أرسى سيد بكركي ركائز المفهوم البطريركي للبنان. وأعلنها بلغة لا لبس فيها. منذ بداية عهده وسدته قال بوضوح: "نؤمن بالعروبة لغة وجامعة ومحيطاً، وكل ما زاد عن ذلك لا يعنينا". ولما عصفت الريح بثوابت الميثاق، لم يتردد مطلع التسعينات عن العودة الى جوهر الرسالة: "اذا خيّرنا بين الحرية والتعايش، نختار الحرية". لكن صاحب الغبطة عرف كيف "يحوّل" انذاره ظاهرة عجائبية، فوسط تخلّي العالم وتصحير ساحة رعيته، وابتلاع الوطن، عرف كيف يجترع التوفيق بين الحرية والتعايش. فرفض العروض السورية طيلة 15 عاماً، وعضّ على التلاعب "الشركائي" طيلة الفترة نفسها. لم يستقو بأحد من الخارج على الداخل، ولم يستعدِ أحداً لا في الداخل ولا في الخارج، حتى صار "المرجعية"، و"مستودع" الحرية والاستقلال، حتى تحققهما.

بعد انسحاب الجيش السوري وانجاز السيادة، استراح كثيرون الا هو. تهافت معظمهم لقطف ما زرعته "كلمته". الا هو. لم يأخذ استراحة المناضل حتى، بل أكمل مسيرته: التوازن في النظام، محطة ثانية بعد الاستقلال للوطن. وكما في كل مرة كان صوته سباقاً، حتى الوحدة والعزلة. في 14 أيار الماضي، كان قد مضى يومان كاملان على صرخته البنوية: قانون انتخابات عادل، والا "فلقد أعذر من أنذر". لم يفهموه يومها. بعضهم عاتبه وجاهاً آخرون انتقدوه همساً. وجلّهم تركوه. حتى الذين دافع عنهم طويلاً بعثوا اليه برسائل مفادها: "نحنا مشينا". مساء ذلك السبت كانت رعيته تملأ ساحات الصرح تأييداً. لكنه كان في داخله وحيداً. قال لأحد ثقاته: "هذا حظي في هذه الدنيا". لكنه لم يقنط. فهو من كان أعلن قبل نحو سنة في رسالة صوم العام 2004، ان من أسباب معاناة الانسان عندنا والوطن "ضعف الانتماء الوطني لدى بعض النفوس التي بهرها بريق الاغراءات على أنواعها". ومع ذلك لا يزال واقفاً على الدرب، مستعداً لاجتراح الجديد، وكيف لا يؤمن متيقناً بقدرته، هو من يحول كل صباح الخبز والخمر جسداً محيياً لكل البشر.

ماذا لو قدر لك أن تظل 20 عاماً أخرى؟ يضحك عالياً ويجيب: "كيف ستكون حالتنا اذذاك!" لكن المهم حالة شعبه ووطنه هما اللذان ـ على عكس ما قاله سنة 1986 ـ ضعيفان يقويان به، يرد: "لا سأظل دائماً أقول انني أنا الضعيف، لكنني أقوى بشعبنا والكنيسة". هل ثمة من يسأل بعد لماذا حفر على صخرة أن مجد هذا الوطن أعطي له!