يومٌ يتهمني بالجهل ويومٌ أتهمه بالكذب 

جان عزيز  9آذار 2006 

نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ جان عزيز في الندوة التي نظمت في مار الياس انطلياس لمناسبة توقيع كتاب بيار عطالله "لبنان تحت الاحتلال"

" مزعج كتاب بيار عطالله. كأنه... كاتبه... كأنه الحقيقة.

هذا في المبدأ والمطلق والعام. أما في ما يخصني, فازعاج هذا الكتاب يلامس جلسات التعذيب. كيف لا, وهو يبدأ بيوم يتهمني, وينتهي بيوم أتهمه. 13 تشرين الأول 1990 يوم ما زال يتهمني.

و14 شباط 2005 يوم سأظل أتهمه, واليكم بعض الأسباب, من الكتاب.

"صبيحة 13 تشرين الأول 1990" , يبدأ بيار كتابه. وصبيحة ذاك النهار لحظة تتهمني بالجهل, في أقل تقدير.

ذاك اليوم كنت واحدا من الذين يقول عنهم بيار أنهم فرحوا. بعد أكثر من 15 عاما, لا تزال تحضرني تلك اللحظة المتهمة.

لحظة أطلقت النار ابتهاجا باحتلال النظام السوري لما تبقى من حريتنا.

أطلقت النار بسلاح كان معدا أصلا لمواجهة المحتلين أنفسهم.

ومضت الأيام ولم يخف أحساسي بالندم.

لا بل صار الندم مأزقا يستولد مآزق: كيف أقنع رفاقي أن ما حصل كان كارثة, وأقنعهم في الوقت نفسه بأنني باق واحدا منهم, لا مرتدا ولا منشقا.

وكيف أقنع رفاق الجهة الأخرى, بأن نقر بالخطأ, وأقنعهم أيضا بأنني لن أصير واحدا منهم, لا مبشرا ولا مستوعبا.

وكيف أقنع الطرفين أن مسؤولية كارثة ذلك النهار كانت مشتركة, وأن السبيل الوحيد لخلاصنا, لن تكون الا مساحة مشتركة.

بعد 15 عاما ونيف على هذه المآزق, يأتي كتاب بيار ليذكرني بأنني فشلت, وتأتي كل الظروف المحيطة لتؤكد أننا فشلنا... 

وينتهي الكتاب في 14 شباط 2005. هذا النهار الذي أتهمه.

انني أتهم 14 شباط 2005 بتضييع الحقيقة, وتنسيب النضال, وسرقة حق المقاومين, وتزوير هويات الأبطال, واختلاس عذابات المعتقلين, ومصادرة تضحيات المنفيين, والعربدة فوق قبور من ماتوا, ذاك اليوم وقبله, والفجور بحق عقول من بقيوا أحياء, ان لم ينفجروا جنونا حيال كذب ذاك النهار.

30 عاما من الاحتلالات, ومثلها من العمالات, من كل المواقع والمناطق والطوائف, زورت في 14 شباط 2005 وما تلاه. استشهد رفيق الحريري, فانقلب الوضع الدولي ولاقته ثورة شبابنا, فبدأ التحرير.

فجأة أطلوا برؤوسهم الوسخة, هم أنفسهم رؤوس ذل الأعوام الماضية, حملوا لونين وشالا, كما ألوان وجوههم في فترة الاحتلال, لفوا أعناقهم بها, أعناق الخنوع نفسها طيلة عقدين, وجاءوا مندسين بين أبطال ثورة الأرز, متسللين, مهربجيي, أملا بغسالة 14 شباط. ونجحوا.

أني أتهم 14 شباط بارتكاب أكبر عملية تزوير في تاريخ لبنان, على حساب جراحك يا بيار في أيار 1997, وعلى حساب دماء أكثر من 6 آلاف معتقل بين 13 تشرين و 14 شباط, وعلى حساب زنزانات رفاقي ومنافي أهلي, وعلى حساب دم رفيق الحريري نفسه.

أني أتهم وفي يدي كتاب بيار قرينة. قارنوا بين ما فيه من اقتناعاتهم طيلة 15 عاما, وبين اعتناقاتهم الأخيرة.

مقارنة, ان ننسى لاننساها.

في فرنسا يا بيار, حيث نفاك أبطال تحرير آخر زمان, كان ثمة احتلال أيضا قبل عقود. بعد زواله صار المقاومون يأتون بعاهرات الضباط الألمان من الفرنسيات, فيحلقون رؤوسهن تدليلا على عارهن في مخادع المحتل, واشهارا لموبقاتهن أمام الناس. أنا لا أحلم اليوم بحلق رأس أي من مرتكبي عهر الأعوام الماضية.

مع انني أعتذر عن المقارنة, من كل محترفات أقدم مهن التاريخ البشري.

فأنا أدرك أن عهر الجسد طهر, مقارنة بعهر السياسات والرئاسات فوق سيادات الأوطان وكرامات الشعوب.

غير أن أقصى ما أطمح اليه, هو ألا أراهم كما هم اليوم, يحلقون ذقونهم ويمشطونها, تمهيدا لاستمرارهم في الحكم والظلم, خيارهم في الاحتلال, خيارهم في الاستقلال.

هل يطمح كتابك الى أكثر من ذلك؟

لا أظن, فهو اكتفى بمجرد نماذج, لا تدعي الشمولية ولا المسح الكامل. حتى عنوانه ناقص,

فالحق أن يكون: لبنان تحت الاحتلال.

بسبب جهلنا في ذلك اليوم وعمالتهم في كل الأيام.