محاضرة لجان عزيز عن "مشروع الحريري: مراحله وخطره على لبنان" 

8 حزيران 2006 

نظمت هيئة قضاء زحلة مساء السبت 3/6/2006 محاضرة للكاتب والصحافي جان عزيز حول "المشروع الحريري: مراحله وخطره على لبنان".

وتميزت هذه المحاضرة بدقتها ومنهجيتها في عرض مشروع رفيق الحريري المتواصل فصولاً في لبنان وبتقديمها تصورات واقعية لكيفية مواجهة هذا المشروع. وهنا نص المحاضرة.

  منذ العام 1980 كان هناك مشروع سعودي للبنان. لماذا العام 80؟ لأنه في ذلك الوقت استجد عاملان على السياسة السعودية في المنطقة:

الثورة الخمينية وإطلاقها العامل الشيعي والنتائج العملية المالية لثورة النفط، إذ بدأت عائدات النفط تتراكم ما جعل النظام السعودي يتطلع إلى ما هو أبعد من حدود المملكة والخليج العربي. وتحديداً كان من المنطقي أن يتطلع النظام السعودي إلى لبنان بسبب وجود جماعة سنية وازنة تاريخياً في هذا البلد ومرتبطة بالنظام السعودي عبر الPAY Roll الشهير جداً منذ قيام المملكة. وكان مطلوباً من الإهتمام السعودي التكيف مع الإحتلال السوري للبنان. ومن المصادفات التاريخية أن يبرز في ذلك الوقت الملياردير اللبناني السعودي الجنسية رفيق الحريري.

في العام 1982 توفي الملك خالد وتولى سدة الحكم في السعودية الملك فهد الصديق المباشر لرفيق الحريري، وكانت الخطوة الأولى التي اتخذت يومها –وهذا منقول عن المصادر الرسمية المعنية- أن الحريري طلب من الملك فهد أمرين: حصر كل طلبات مواعيد زيارات اللبنانيين للسعودية ومرور المساعدات المالية السعودية للبنانيين عبر الحريري. والخطوتان كانتا كافيتان لتكريس دور الحريري على الساحة اللبنانية، وهنا بدأت المرحلة التالية من الإهتمام السعودي بلبنان.

الخطوة الأولى لترجمة هذا الإهتمام بدأت في فترة الإجتياح الإسرائيلي وبعد سقوط الجبل. البعض يعتبر أن العودة إلى هذا الموضوع هو من باب نكأ الجراح، لكن المطلوب هو قراءة صفحاتنا كاملة لنطويها.

عنوان المرحلة تمثل بسجالٍ إعلامي فُتح بين أمين الجميّل ورفيق الحريري في الصحف والتلفزيونات تناول واقعة حصلت في آب 1983.

وتروي الواقعة أن اجتماعاً حصل بين سامي مارون مستشار أمين الجميّل وفؤاد السنيورة في مطعم الماندارين في فردان، وبقي هذا الإجتماع سراً من آب 83 حتى العام 2003 حين أُميط اللثام عنه نتيجة خلاف سياسي بين الجميّل والحريري.

قال الجميّل في حينه إنَّ الحريري عرض عليه مبلغ 30 مليون دولار مقابل تعيينه رئيساً للحكومة، ورد الحريري بتأكيد الواقعة مع الإشارة إلى أن سامي مارون هو من حمل إليه العرض، وأترك للحاضرين تقدير أيٍ من الروايتين هي الأصح، لكن من الواضح أنها كانت محاولة أولى لترجمة الخطوة الأولى من المشروع المطلوب سعودياً للبنان بالتعاون مع الإحتلال.

بعد فشل الخطوة الأولى، تجددت المحاولة بعد أشهر في مؤتمر جنيف للحوار الوطني الذي حضرته سوريا والسعودية بصفة مراقب. أرسل السعوديون رفيق الحريري إلى المؤتمر وتكررت المحاولة في مؤتمر لوزان في آذار 84 ولكن المحاولتان فشلتا.

بعد آذار 84 حدث تطوران مهمان بالنسبة لفريق الحريري: الأول نقل المسؤول عن جهاز الإستطلاع السوري محمد غانم إلى سوريا وتعيين غازي كنعان مكانه، وكنعان هو أحد أصدقاء عبد الحليم خدام الذي يعرفه الحريري منذ العام 1973. ومنح وصول كنعان قوةً للحريري، مع الإشارة إلى أن دخول كنعان إلى بيروت أتى بالقوة بعد اشتباكٍ مع عناصر حزب الله. أما العامل الثاني فكان انتقال مدير المخابرات في عهد الياس سركيس جوني عبدو إلى فريق الحريري، وأعطى انضمام عبدو وكنعان إلى فريق عمل الحريري انطباعاً بأن تحقيق مشروعه بات أسهل.

أعاد الحريري إطلاق حركتين لترسيخ وجوده: الأولى باتجاه الرئيس الجميّل في ما عُرف بخلوات بكفيا لإقناع الجميّل بتعديلاتٍ تعطي السُنة أرجحية في النظام، والثانية عبر غازي كنعان وجوني عبدو وكتابة المسودات الأولى للإتفاق الثلاثي بين أواخر 1984 و العام 1985.

وحدة الموقف المسيحي أسقطت هاتين المحاولتين، وأصيب أصحاب المشروع الحريري بخيبة أمل ونقمة كبيرة بعد إسقاط الإتفاق الثلاثي لدرجة أن الدكتور سمير جعجع أخبرني شخصياً أن الحريري موَّل عملية هجوم قوات إيلي حبيقة على الأشرفية بتاريخ 27/9/1986 لمعاقبة سمير جعجع على وقوفه في وجه الإتفاق الثلاثي، كما حاول الحريري وقف المساهمات المالية إلى مؤسسة الجيش اللبناني لتصديه لهجوم حبيقة.

بعد هذا التاريخ حصلت موجة من تفجيرات السيارات المفخخة في المناطق، استكان مشروع الحريري ولم ينته، وبدأ التحضير لاستغلال فرصةٍ أفضل كان من الواضح أنها ستأتي في أيلول 88 بإمكانية فتح بازار حول هوية رئيس الجمهورية، وفي الواقع أصابت تقديرات أصحاب المشروع فتمكنوا من النفاذ عبر اتفاق الطائف بغض النظر عن مضمونه. فأساس اتفاق الطائف وجوهره أمرٌ وحيد كما أراده مشروع الحريري وهو جعل لبنان عاجزاً عن حكم ذاته بذاته وتالياً جرّه إلى التلزيم المثلث: أميركا تلزّمه لسوريا وسوريا تلزّمه لرفيق الحريري.

لدى إقرار اتفاق الطائف فوجئ أركان مشروع الحريري في اللحظة الأخيرة بخطوة غير متوقعة: انتخاب رينيه معوض الذي لم يكن وارداً في حسابهم لأنه لم يكن جزءاً من مشروع الحريري في داخل الطائف.

يروي لي أحد الوزراء الأساسيين في تلك المرحلة وهو ألبير منصور (على أمل أن يتجرأ على رواية هذه الوقائع في كتابه الجديد) أن الحريري عمل على ملف الرئاسة اللبنانية من خلال الترويكا السورية، حكمت الشهابي وغازي كنعان وعبد الحليم خدام في حين تولى هو الإتصال المباشر السعودية.

تمكن رئيس مجلس النواب في حينه حسين الحسيني من التنسيق بين البطريرك صفير ومسؤول المخابرات السعودية كمال أدهم المنافس للحريري فاتفقوا على انتخاب رينيه معوض ومرروه مسجلين نقطةً في مرمى فريق الحريري.

قتُل رينيه معوض، وفي هذا الإطار يقول ألبير منصور أن حافظ الأسد لم يكن على علم بهذا الإغتيال، وعلى ذمّة الراوي أن الترويكا السورية (خدام،الشهابي،كنعان) سارعت إلى تقديم تقرير لحافظ الأسد عن مقتل رينيه معوض ومفاده أن عملية الإغتيال تمت لمصلحة ميشال عون بتخطيط عراقي وتنفيذ فلسطيني. وتذكرت هذا الأمر عند تحميل ميشال معوض العماد ميشال عون مسؤولية اغتيال والده.

بعد مقتل معوض حاول فريق كمال أدهم-البطريرك-الحسيني ضرب مشروع الحريري مجدداً عبر محاولة تمرير المرشح بيار حلو الذي تردد وحسم تردده عبر عاملٍ سهل، إذ اتصلت به امرأته القاطنة في كندا وذكرت أنها تلقت اتصال تهديد من قبل أحد الأشخاص لثني زوجها عن الترشح(...).

مرَّ الطائف بصيغته الحريرية وانطلق في المرحلة التي امتدت حتى العام 2004. وفي تلك المرحلة تغيرت أمورٌ كثيرة.

انطلقت مفاوضات السلام بعد مؤتمر مدريد، وأحرج رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين سوريا بما عرف ب"وديعة رابين" التي تنص على استعدادٍ كامل للسلام مقابل إنسحاب إسرائيلي كامل من الجولان. لم يكن الجولان وارداً في اهتمامات الأسد، بل كان همه لبنان وبقاء سوريا قوة إقليمية عظمى. أحرج الطرح الإسرائيلي الأسد فبدأ يراهن على المقاومة في جنوب لبنان، وحاول الحريري انتزاع هذه الورقة بعد عملية "تصفية الحساب" التي شنتها إسرائيل على الجنوب في تموز 1993 من خلال التمسك بنشر الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، فحصلت المواجهة الأولى بين الحريري وثنائي المقاومة-الأجهزة الأمنية، ومنذ ذلك الحين نشأ في سوريا مشروعان يتنافسان على الساحة اللبنانية.

ربح الحريري جولة التمديد للياس الهراوي عام 95 وانقلبت الأدوار عام 98 ليربح الفريق المنافس له. فقد قرر هذا الفريق (الأجهزة-المقاومة) العمل مع فريق آخر في سوريا غير الترويكا السورية الحليفة للحريري.

وفي ذلك الوقت بدأ حافظ الأسد يفكر بالخلافة وحسم الأمر لصالح ابنه بشار وليس رفاقه في الحزب، ما عزَّز موقع إميل لحود والمقاومة.

وبدل أن يدفع هذا الأمر رفيق الحريري إلى الإرتداد لبنانياً لنسج مشروع لبناني داخلي يواجه القرار السوري، قرر الإنقلاب على حافظ الأسد في سوريا.

وبدأ مشروع الحريري يخطط للإنقلاب في سوريا، ومرّت خطة الإنقلاب بثلاث مراحل: قانون انتخابات 2000، 2002، انسحاب غازي كنعان من لبنان، ويقال في حينه أنَّ مشروع الإنقلاب صار في تلك الفترة شبه معلن وأصبحت الحال بين الفريقين في سوريا أشبه بمبارزة على طريقة الكاوبوي، ينتظران من سيطلق الرصاصة الأولى، وصودف أن الرصاصة الأولى أُطلقت في 14 شباط 2005.

في الواقع مشروع الحريري يعني استدرار وجذب كل عائدات النفط غير الشرعية لثورة النفط في الخليج إلى لبنان، وهذا الإستثمار لن يكون تجارياً فقط بل سياسي وطائفي ومذهبي.

مشروع المحاسبة الAudit الذي تنادي به كتلة الإصلاح والتغيير برئاسة العماد ميشال عون تضرب كل الأسس لهذا المشروع.

ولنعطي مثلاً فائدة الدين التي بلغت ستة عشر مليار دولار حوُّلت إلى ألف حساب مصرفي والتدقيق في هذه الحسابات يظهر أن أصحابها الفعليين لا يتعدون الثلاثمئة شخص وهؤلاء يشكلون سبع عائلات.

ولا ننسى سوليدير تكريساً وتوسيعاً وتمديداً على حساب الضرائب التي دفعناها من جيوبنا، فهل يعطي أحد عاصمة وطن لشخص؟!

بعد سنة من الإنسحاب السوري، هل يمكننا القول أن المشروع ما زال موجوداً؟

لقد ضعف في بعض نواحيه وقوي في نواحٍ أخرى بتمكنه من ابتلاع بعض القوى المسيحية. هل إمكانية المواجهة موجودة؟

إنَّ من "فك رقبة" الإحتلال السوري في لبنان يستطيع بالتأكيد مواجهة هذا المشروع.

ثم دار حوار بين الحضور وعزيز الذي اعتبر أن أهم ركيزة لمواجهة المشروع الحريري هي وجود طائفة رافضة لأن لبنان قائم تكويناً على تواقق الجماعات.

حالياً الدروز متحالفون مع هذا المشروع، الشيعة قادرون على إنتاج موقفٍ واحد لكن موقفهم من مشروع الحريري لا يزال ملتبساً حتى الساعة لجهة البديل الذي يطرحونه. تبقى الجماعة المسيحية التي تستطيع المواجهة في حال كانت موحدة وقالت لا بقواها الرئيسة الثلاث: بكركي، عون، جعجع. والثلاثة مسؤولين عن عدم توحد الموقف المسيحي بنسبٍ متفاوتة. وفي هذا الإطار نطلب من الناس أن يكونوا صمام أمان لخلافاتنا.

وعن العلاقة بين القوى المسيحية وموقف القوات وبكركي من مشروع الحريري قال عزيز: أنا أنتقد العماد عون حيث يجب ولا أرتبط بأي علاقة تنظيمية بالتيار الوطني الحر، لكن في المقابل أنا أخضع لقواعد الديموقراطية فعون حاز أكثرية مسيحية ساحقة وكان مفترضاً بالقوى المسيحية تالياً التسليم بقيادة عون للمسيحيين وتنتظر الإستحقاقات الديموقراطية لمحاسبته. المؤسف أن مصير جماعة يتقامر به في الحسابات الشخصية.

تعلمنا بالتجربة أنه عندما سقط عون سقطنا نحن كقوات لبنانية وسمير جعجع سجن في 13 تشرين الأول 1990. لا أفهم لماذا لا نستوعب هذه الحقائق.

الحقيقة لا يملكها طرف واحد ولا تتصرفوا على أساس ذلك أبداً.

وعلى عون نسبة من الخطأ في التعامل مع القوى المسيحية الأخرى وقلت له ذلك، وفي النتيجة المسؤولية تقع على الجميع وإن بشكل متفاوت.

المشهد السياسي سيكون على الأرجح على الشكل الآتي: السنية السياسية ستركز على التمسك بالطائف في حين ستسعى الشيعية السياسية إلى التركيز على عناوين إصلاح النظام وسد الثغرات، والمواجهة السنية الشيعية ممكن أن تكون إيجابية أو سلبية ويتوقف ذلك على عاملٍ واضح: وحدة المسيحيين أو انقسامهم.

في حال الإنقسام ستلعب الجماعة المسيحية دور الكومبارس السياسي أما الوحدة فتنتج إجابية كبرى بالتعويض عن الخلل الديموغرافي بتأمين التوزان الثلاثي مما يعطي النظام اللبناني استقراراً قد يكون دائماً.

وعن التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر اعتبر عزيز أنه كان ضرورةً ملحة لصد مشروع الحريري، لكنه بحاجة إلى البلورة والإنضاج للتحول إلى مشروع بديل للسنية السياسية وجامع لكل اللبنانيين فلا يكون على حساب المسيحيين.