ماذا يجري على الساحة المسيحية؟

جان عزيز

الأحد, 11 يونيو, 2006

ثبت بشكل قاطع، ان أفضل مقياس للتمييز في دول العالم الثالث، بين اليمين واليسار، هو معيار ان تكون في السلطة، وبالتالي محافظاً على النظام، أو ان تكون خارجها، أي داعياً الى تغيير. فبمعزل عن التوجهات الاقتصادية والفكرية والسياسية الدولية والدولتية، لا بد من الاقرار، بانه في مجتمعات، كمجتمعنا السياسي اللبناني ان تكون يمينياً هو ان تكون حاكماً محافظاً، وان تكون يسارياً يعني ان تكون محكوماً ثائراً. اما كل ما تبقى فمجرد ذرائع بخطاب سياسي معدّ للتقلب والتكيف والتبدل.

الذين لم يدركوا هذه القاعدة، لم يفهموا كيف ان المسيحيين النازحين من الدول العربية المجاورة، الى لبنان مطلع السبعينات، غيّروا عناوينهم الايديولوجية. فهؤلاء الماركسيون والماويون في سورية والعراق وغيرهما، لم يلبثوا في بيروت مع اندلاع الحرب، ان انضموا الى الأحزاب المسيحية، وقاتلوا في صفوفها وصار لهم فيها ولأجل قضاياها شهداء وبطولات. وبينما التفسير واضح، فهؤلاء المسيحيون المهمّشون في أنظمة الجوار، اعتنقوا اليسار تعبيراً عن توق كامن الى تغيير تلك الأنظمة. فيما هم أنفسهم “الحاكمون” في النظام اللبناني، صاروا من غلاة اليمين، دفاعاً عن نظام اعتقدوا انهم انتزعوا معه حقوقهم.

وبالانتقال الى الحقبة الراهنة، تبدو القاعدة المذكورة وحدها القادرة مثلاً، على تفسير الفارق بين تصاريح الشيخ محمد علي الجوزو اليوم، وبين مقال الدكتور حسين القوتلي الشهير في جريدة “السفير” في 18 آب 1975. فموقف مدير عام الأوقاف الاسلامية غداة اندلاع الحرب، “اليساري” المتطرف لجهة الثورة على النظام، يكمله موقف مفتي جبل لبنان بعد نهاية الحرب، في “يمينيته” المغالية دفاعاً عن النظام. علماً ان الاعتقاد واجب في كون الرجلين لم يغيّرا فكرهما، لكن النظام اللبناني هو من تغيّر، فتغيرت مواقف المعنيين به، منه.

غير ان بلوغ هذا الحد من البحث يفرض طرح السؤال: لكن كيف تغيّر النظام في لبنان وفي أي اتجاه؟ لاحظ أحد الخبراء في “القضية اللبنانية”، انه لو قدر لمراقب حيادي ان يشهد اندلاع الحرب في لبنان، بكامل ظروفها وخلفياتها سنة 1975، ثم ان يغيب عن هذا العالم 30 سنة كاملة، ليعود الينا بعد زوال الحرب في بيروت سنة 2005، لاعتقد للوهلة الأولى ان المسيحيين حققوا انتصاراً كاسحاً ساحقاً ماحقاً في تلك الحرب، فالاجماع اللبناني على نهائية الكيان صار دستوراً. وفك الارتباط مع القضايا ــ الذرائع العربية والاسلامية، صار واقعاً. وانسحاب الجيوش غير اللبنانية، حتى “الشقيقة” منها، صار من باب الثوابت، أو حتى المزايدة. والقضية الفلسطينية وكفاحها وسلاحها، لم تعد تحرك شاباً واحداً في رأس بيروت. والانتماء الى العالم الحر والتزام قواعده في السياسة والاقتصاد والفكر والممارسة، صار من جوامع اللبنانيين. حتى عتاة اليسار السابق حجزوا مقاعدهم على لوائح “الرأسمال الوحشي”. كما كانوا يسمونه... باختصار، كأن كل ما رفعه المسيحيون قبل 3 عقود قد تحقق. انتصر ما حاربوا لأجله، فيما هم في واقع مناقض، لماذا؟

هذا الفارق، بل الفجوة، بين انتصار ما رفعه المسيحيون من عناوين لنضالهم، وبين انكسار واقعهم، هو السبب الأساسي لعودة الاحباط المسيحي. وهو فارق لم يتم التوقف عنده كما يجدر بعد. ولم تتم دراسة أسبابه وسبل معالجته وتخطيه. لكن الأكيد ان عوارض هذه الفجوة بدأت تظهر في سلوكية النخب المسيحية، وفي هواجس قوى مجتمعهم المدني وإرهاصاتها. إذ كما العود على البدء، يؤكد العارفون ان عملية “بحث عن الذات” قد بدأت فعلاً في عشرات الحلقات والأطر المسيحية المستجدة. وليس بعيداً عن هذه الظاهرة، بروز أسماء إعلامية جديدة: “الاتحاد من أجل لبنان”، وهو إطار لعدد كبير من حزبيين سابقين، “قدامى ومؤسسي القوات اللبنانية”، وقيل ان هذا الاطار عقد خلوة تنظيمية في دير كسرواني وانتخب قيادة جماعية له من 6 أسماء ــ رموز. “الملتقى” الذي أطلقه عدد من المفكرين والسياسيين المسيحيين من المكان ــ الرمز، الكسليك. “المجلس اللبناني ــ المسيحي”، وهو إطار لعدد من رجال الأعمال المسيحيين الشباب، وقد أجرى خطوته التنظيمية الاولى وانتخب هيئته... إضافة الى عشرات الحلقات الأخرى الباحثة عن... ماذا؟ عن دور؟ عن استلحاق؟ تبدو المسألة أكثر عمقاً وبنيوية. فثمة قلق وجودي، فطر المسيحيون عليه ربما، ولم تكفه حتى اللحظة ثنائية عون ــ جعجع، رغم استمرارها بأكثرية ساحقة، ورغم التقدم الكبير للأول على الثاني. لكن الظاهر ان المسيحيين عادوا الى بحثهم، تماماً كما كانوا منذ قرر أحد أجدادهم معرفة الخير من الشر.