رسالة الى عمر بكري: لن نرضى بحشرنا بين اسلام المخافر واسلام المغاور

والمسلمون في لبنان ايضاً لن يتقبلوا دعمك لابن لادن

بقلم احمد فهد الايوبي () النهار 10 أيلول

لست من هواة السجالات الاعلامية، وان كنت احب الكتابة وأعشق مهنة الصحافة، واحمل قناعة راسخة بأن للاعلام دوراً حقيقياً في بناء الانسان وارساء عناصر الحضارة الانسانية وتثبيتها. الا ان ما قاله السيد عمر بكري في حديثه المنشور يوم الثلثاء 6 ايلول 2005 استفزني وجعلني اخرج الى السجال، لانني شعرت بأن الساحة تكاد تخلو من اهل العقل والمنطق، لمصلحة كل من يحمل فكراً متطرفاً او مشوشاً، وبالتالي وجدت نفسي اكتب هذه السطور، التي لا اعتبرها رداً شخصياً على السيد بكري، بل على طروحاته وافكاره، هو وكل من يحمل افكاراً مشابهة، لئلا يتحول السكوت عن هذه الطروحات ما يشبه الاقرار، وحتى لا يتحول الصمت عليها اداة اثبات سلبية لها، وحتى يظهر ان لدى المسلمين حالة رفض لما تحمله طروحات كهذه لشركائهم في الوطن.

فجأة قرر السيد عمر بكري العودة عن قراره شراء الحنطور وبيع الكاز في لبنان (مقابلة مع "الشرق الاوسط" بتاريخ 28/8/2005).. ليتمشى في وسط بيروت وليعقد فيه لقاءً صحافياً اعاد خلاله طرح بعض أفكاره التي تسببت بخروجه من العاصمة البريطانية، فحملها الى لبنان، وقرر ان يفشيها عبر الاعلام.. ولعل الابرز من بين ما قاله السيد بكري بأن "(اسامة) بن لادن يستحق الدعم، لان مقاومته للقوات المحتلة امر شرعي ويجب ان لا ندينها" وانه لن يعود الى بريطانيا "لان الحكومة البريطانية لا تستطيع ان تتقبل دعمه لابن لادن وللحرب المقدسة في بلاد مثل العراق وافغانستان و"اسرائيل".

وقد لفتني ان حركة السيد بكري لم يستطع اي صحافي او مصوّر لبناني ان يرصدها، بل جاءتنا الصور من وكالة الصحافة الفرنسية ونص الحديث من وكالة "الاسوشيتد برس"، مما يعني – في رأيي – ان الصحافة الاجنبية لا تزال تكرر الخطأ نفسه في تتبع الحالات النافرة في العمل الاسلامي وتعمل على تضخيمها، تماماً كما كان يحدث في لندن. فأبو حمزة المصري، الذي حوّله الاعلام البريطاني وبعض الفضائيات العربية الى ناطق باسم الاسلام وليس المسلمين فقط، كان عدد المصلين الذين يؤمهم في صلاة الجمعة لا يكاد يتجاوز العشرين شخصاً، فيما كان عدد المراسلين الصحافيين الذين يتولون نقل مواقفه الغريبة يتجاوز الخمسين! والسؤال هنا: لماذا هذا البحث المتواصل عن ابواق التطرف، واغفال اصوات الاعتدال؟ وهل خلت لندن وباريس ومدريد وبيروت من اصحاب الآراء الاسلامية الوسطية والمعتدلة التي تسهم في عقلنة الحالة الاسلامية، بدل تهييجها وايرادها موارد التهلكة؟

ومن الملاحظات التي تستوقفني دائما في سياق مناقشة ملف كهذا، هي مسارعة الاعلام الى اغداق لقب "الداعية" على كل من يطلق لحيته ويطلق لسانه في الكلام على الاسلام بصرف النظر عن مستوياتهم العلمية والشرعيةـ، وعما يطلقونه من افكار، في حين يكاد الدعاة الفعليون ان يدفنوا في غرف النسيان، ويدفن معهم منطق الاعتدال. وفي عودة الى "ظهور" السيد بكري وكلامه الذي أطلقه، أتوجه اليه بنصيحة صادقة، وهي أن لبنان ولا سيما المسلمين فيه لا يحتاجون الى اعادة نقل تجربتك التي خضتها من لندن الى بيروت او الى أي قرية او مدينة فيه.

من نحن؟

وقبل ان افتح الصفحات مع الاخ عمر بكري، أود ان اشير الى انني أتحدث باسمي الشخصي، وباسم حالة اسلامية تبلور عملها بتعاون وتكامل بين عدد من العلماء والمثقفين وفاعليات المجتمع المدني والناشطين في العمل الاسلامي، وكان لنا رأي في عدد من القضايا التي شكلت نقطة خلاف مع بعض الحالات الاسلامية التي لا تزال تصر على منطق الاعتزال والطروحات المتشددة والمتهورة، ولبلورة هذه المواقف، انعقد لقاءان اسلاميان في مكتب الشيخ سمير كمال الدين في طرابلس، وصدر عنه بيان يتصدى لمن يدعون الى حمل السلاح باسم العمل الاسلامي ولكل من يقابلهم بهذا المنطق في أي منطقة، ومن أي طائفة او مذهب آخر (نشرت "النهار" البيان بتاريخ 3/9/2005).

هذه المجموعة مدت يدها للتعاون مع جميع المسلمين ومع سائر اللبنانيين، ولاقت التجاوب في الوسط الاسلامي وفي المدى الوطني، ونحن نرى انه حان الوقت فعلا لأن يحزم المسلمون في لبنان أمرهم، بين الوسطية وبين التطرف، وأنه حان الوقت فعلا لرفع الغطاء عن كل اشكال التطرف المؤدي الى العنف، وانه لم يعد ممكنا ابقاء منطقة رمادية تسمح بتسلل المتطرفين نحو فعل الارهاب او العنف... وهذه المجموعة التي عقدت في نيسان 2005 أحد أكبر المؤتمرات الحوارية بتنظيم من "المركز اللبناني للاعلام والدراسات والابحاث" في معرض رشيد كرامي الدولي تحت عنوان "تحديات العيش المشترك في لبنان في ظل التطورات الدولية والاقليمية"، شارك فيه حوالى ثلاثة الاف من رجال الدين والمثقفين والناشطين في حقول الدعوة والحوار... عازمة على مواصلة طريق الحوار، عن طريق التحضير لمؤتمرين.

المؤتمر الالو مؤتمر اسلامي يحمل عنوان: "المسلمون في لبنان بين التمسك بالوسطية ومواجهة التطرف"، والمؤتمر الثاني هو استكمال لمؤتمر تحديات العيش المشترك من أجل مواكبة التطورات والاحداث وكيفية التعاطي معها لتثبيت فكرة العيش المشترك في لبنان.

كما ان هذا الطرح الذي تتصدى له مجموعة الناشطين المسلمين هذه لا تدعي انها وحدها تحمل طرح الوسطية والاعتدال، بل تعتقد ان مجمل المسلمين هم أصحاب هذا الطرح، لكن صوتهم غير مسموع بسبب قرقعة التطرف، ولأنهم يتحركون فرادى (بالمفرق) فيما يكسب التطرف كل يوم أرضا جديدة.

ان خلاصة مهمتنا تتلخص في رفع صوت الوسطية والاعتدال وصولا الى قيام تحالف يضم معظم المسلمين في وجه أقلية تحمل "فيروس" التطرف، ومن غير الجائز ان نتركها تنقله الى الآخرين. الى هنا، يبدأ كلامي الموجه الى السيد عمر بكري، لاقول له انني لن اخوض معك في حقك في التعبير عن افكارك، فهذا حقك، ولكن الفكر عندما يتحول الى اداة للقتل والتدمير، كما هو الحال مع فكر "القاعدة" وبن لادن والزرقاوي وأبي قتادة. وغيرهم من الجهابذة الذين التجأوا بشكل أو بآخر الى الغرب هربا من اضطهاد انظمتهم، وهم يريدون الآن من المسلمين في الغرب ان يتحولوا الى نعوش متنقلة تنشر الموت والدمار، غير مبالين بأنهم دمروا عقودا طويلة من الجهد العلمي والاقتصادي والانساني في ترسيخ الوجود الاسلامي في بلاد الغرب، وبدلا من ان تستمر عملية التواصل الحضاري والانساني، جاءت تفجيرات الحادي عشر من ايلول ثم تفجيرات مدريد واخيرا لا آخرا الهجمات في لندن لتدعم اصحاب النظريات الغربية المتطرفة من دعاة صراع الحضارات.

يا سيد بكري.. لقد حطمت هذه الاساليب الجهد الحركي الاسلامي، الذي كان قد بلغ محطات متطورة في الفكر السياسي وفي البناء التنظيمي وفي الوصول الى مواقع القرار وفق منظومة معاصرة، تقوم على قبول التداول السلمي للسلطة ورفض الانقلابات والتخلص من شبهة العمل السري واعتماد الشفافية وحسن التواصل مع عامة الناس، والخروج من الزي "الباكستاني" الى لباس الاسلام الحضاري، ومن الفوضى الفكرية الى المنهجية العلمية، ومن الاكتفاء بمدارس القرآن الكريم والحديث الشريف (الكتاب) الى معالجة كل قضايا العصر والتصدي لمشكلاته بروح الانفتاح والثقة في صلاح الاسلام لكل زمان ومكان. يا سيد بكري.. لبنان ليس فيه مكان لمن لا يفرق بين المقاومة المشروعة وبين الارهاب الاعمى. واذا كان من حق أي شعب تحت الاحتلال ان يدافع عن نفسه، فان ما فعله بن لادن في "غزوة نيويورك" كان قتلا بغير الحق، باجماع علماء الامة، ليس علماء السلطان، المعروفين، ولكن اقطاب العالم الاسلامي بأسره ادركوا لحظة وقوع تلك الكارثة انها لن تكون الا في مصلحة اعداء الاسلام وخاصة العدو الاسرائيلي، وقد جاءت عمليات التفجير في العراق ضد المدنيين، لتنزع من المقاومة الفلسطينية المشروعية المعنوية التي كانت تتمتع بها العمليات الاستشهادية التي اعتمدتها فصائل المقاومة الفلسطينية، واستطاع الاعلام الاسرائيلي والآلة السياسية الصهيونية وبشكل سريع ان يحدث مساواة في الرفض والادانة لجميع عمليات التفجير التي اصبحت انتحارية.

يا سيد بكري... قبل ان يكون من حق بن لادن مقاومة  المحتل في افغانستان، أليس من المشروع التساؤل: من اتى بهم الى هذا البلد، الم تكن "غزوة نيويورك – المظفرة". ومن هناك اصبح الاميركيون على حدود الصين، حيث بنت قواتهم مدنا بكاملها للتجسس على الجار الصيني الكبير عبر الحدود، بدعوى البحث والتفتيش عن بن لادن، مالىء الدنيا وشاغل الناس.

يا سيد بكري، في إحدى مقابلاتك الصحافية رفضت ان تحدد من هم الأبرياء الذين يحرّم الاسلام قتلهم واعتبرت انك لا تحتاج الى تفصيل هذه المسألة. وأنك في هذا الموضوع "مع ما يقوله الشباب المسلم السني في لبنان".. وفي الحقيقة فان الاسلام والعلماء قد أعطوا بكل وضوح وفي مختلف العصور والأحوال التعريف بالأبرياء وبمن يحرم سفك دمهم، بل ان مسألة القتل شكلت جرماً عظيماً في نظر الفقهاء، واستعمال الباطنية في الألفاظ والتهرب من الحقائق لن يعطي عن الاسلام صورته الحقيقية، التي شوهها "دعاة" يتحركون في دائرة التخلف والانغلاق. أما اعتمادك على ما يقوله الشباب السني المسلم في لبنان، فهي مسألة تحتاج الى تدقيق. فهل تقصد بهم مجموعة بذاتها، أم عموم الشباب؟ ان معظم شبابنا في الطائفة السنية، وحتى تكون على علم وبيّنة، يتبعون اجماع فقهاء الأمة المعاصرين، وليسوا من رأيك فيما تطرحه.. أما اذاكنت توجه خطابك الى مجموعة محددة تحمل آراءك نفسها، وتسلمها قيادك وقف "اجتهاداتها" فلقد كان في لندن من هم أشدّ تطرفاً بكثير من هؤلاء، ولن تجد لديهم ما يكفي لارواء ظمئك. وإني اسألك: متى كان تحديد الموقف الشرعي يعتمد على "ما يقوله الشباب"؟. ان ما وصل اليه حال الاسلام اليوم يستدعي مصارحة ومكاشفة كاملة، ولم يعد يحتمل السكوت عن التطرف المشوّه والمؤذي. ولم يعد مقبولاً استمرار بعض المعاهد في تدريس مقولات تنتج بشكل مباشر أجيالاً عاجزة عن الحياة في عصرنا هذا، ولم يعد جائزاً ان يستمر هؤلاء في استغباء عقولنا وعقول بعض المساكين ممن وقعوا تحت سيطرتهم، لدرجة ان بعض هؤلاء "الدعاة" لا يزالون يعتقدون ان الارض مسطحة وان الانسان لم يصل الى القمر ! ولم يعد محتملاً ان تكون بعض الدول الاسلامية مرتعاً لمفاهيم ظالمة في حق الانسان، وخصوصاً في حق المرأة. كما هو الحال في باكستان التي اضطر مجلس النواب فيها الى تشريع قانون يحظر عادة تسمى "زواج القرآن" يستغلها النظام القبائلي لمنع زواج النساء والاستيلاء على ميراثهن.

هذه الامور البالغة الاساءة ليست إلا نموذجاً محدوداً من مشاكلنا الناجمة عن الانحراف بالتراث عن الأصول والقواعد الشرعية الاسلامية الصافية والعادلة. وهي أبسط بالتأكيد من ملفات العنف والتطرف التي نحن في صددها، لكنها جزء من منظومة التخلف التي لا تنتج سوى التطرف.

يا سيد بكري، لقد عبّرت عن حزنك لانك تجد صعوبة في استئجار شقة، لأن أحداً لا يتعامل معك نظراً لارتباط اسمك بالأصوليين والارهابيين.

وأنا أقول لك ان الناس لم تتخذ هذا الموقف نظراً لما تعرضت له من حرب اعلامية – كما تقول – ولكن لان عموم الناس ليست مع التطرف والتشدد، وان الحل لا يكمن في الشكوى من الاعلام، الذي لم يفعل اكثر من نقل مواقفك وتصريحاتك، والحل الجذري لهذه المشكلة هي ان تكون مسلماً تسلك طريق الامة الوسط كما وصف الله تعالى امة الاسلام، وساعتها تستعيد القبول من الناس والطمأنينة والسكينة التي تفتقدها.

واذا كانت مصراً على ان يكون عملك في بيع الكاز على الحنطور (كما ذكرت في احدى المقابلات) فانني ألفتك الى ان استعمال الحنطور في بلدي لبنان بات من التراث، وانتقال العربة والحصان بين السيارات وفي الطرقات المعبّدة بات أمراً محرجاً، وأنصحك إما بتغيير فكرة العمل، وأما بتنفيذ فكرتك في بلد لا تزال تسير فيه الحناطير. يا أخ عمر، لقد تأففت من رفض الحكومة البريطانية دعمك لابن لادن، وكأنه كان على البريطانيين شكره، وشكرك أيضاً عندما صرّحت بانك لو كنت على علم بعمليات التفجير لما كنت أبلغت عنها.

المسلمون في لبنان – يا أخ عمر – أيضاً وأيضاً وأيضاً لا يتقبلون دعمك وتأييدك لابن لادن لا فكرياً ولا عملياً.

المسلمون في لبنان يرفضون ان يحاصروا بين اسلام المخافر، الذي تحاول الانظمة القمعية والشمولية فرضه علينا، وبين اسلام المغاور الذي استنبطه بن لادن ورفاقه الميامين من أصحاب الغزوات المظفرة في القرن الحادي والعشرين.

المسلمون في لبنان وفي أرجاء العالم مناصرون للحق ورافضون للظلم والاحتلال، ولكنهم ليسوا قتلة يجوبون العالم ليفجروه ويدمروه ويحرقوه.

يا أخ عمر، المسلمون يتمسكون بنواجذهم بالاسلام الذي تركه لنا الرسول الكريم، دين عدالة وتسامح، دين حق وانصاف وحوار، دين دفاع عن الحقوق المشروعة، والحقوق المشروعة يكاد يضيعها حماقة البعض من المسلمين واختراق البعض الآخر من أعدائهم، فانظر أين تضع قدميك، إنك في لبنان.

(ں) رئيس المركز اللبناني للاعلام والدراسات والأبحاث – طرابلس لبنان.