"الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر"
دردغيا قرية مسيحية
تبيع الوحشة
بدل النبيذ
محمد أبي
سمرا – النهار 20/7/2005
نشرت
صحف الاثنين، 11
تموز الجاري
خبراً عن
تنظيم القسم
الثقافي في "حزب
الله"، ما سمي "اللقاء
العلمائي
الأول". وقد
عقد هذا
اللقاء في
قرية دردغيا
الجنوبية، قضاء
صور، تحت
عنوان "الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر". وجاء
في البيان
الذي صدر عن
اللقاء ان
المنظمين
دعوا الى "ضرورة
انبثاق لجنة
للأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر في كل
بلدة، وشمول
هذه اللجنة كل
أطياف
المجتمع
وتنوعاته". لا
يحتاج
المتابع الى
كبير عناء
وتدقيق كي
يدرك ابعاد
هذا اللقاء، اذا عرف ان قرية دردغيا
قرية مسيحية
شبه مهجورة
منذ بدايات
الحروب الأهلية
الملبننة،
وان الباقين
القليلين من اهلها،
يبيع بعضهم
الكحول،
كعادة قديمة
من عاداتهم.
ومثلما "يهاجر"
شبان الضاحية
الجنوبية الى
عين الرمانة
والحدث
المسيحيين في
كل مساء لشرب
البيرة في
المقاهي
والمتاجر
التي تبيعها هناك،
وكذلك لشراء اصناف
الخمور على
اختلافها من
ويسكي وعرق ... الخ،
فان سكان
القرى
الشيعية
القريبة من دردغيا
والتي تخضع
لسيطرة "حزب الله"
الأمنية و"الأخلاقية"،
يقصد الراغب
منهم والمريد
القرية
المسيحية لسد
جوعه النهم الى جرعة
من الكحول... وهكذا
وجد "اللقاء العلمائي
الأول" مهد "المنكر"
و"الموبقات" في
دردغيا
شبه المهجورة
الخالية
والمحتل
القسم الأكبر
من بيوتها.
لعل دأب
جماعة "الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر" اختيار
الجهة
الأضعف، بل
المستباحة، لاقامة
حربهم "الأخلاقية".
فبدل ان
تتكبد هذه
الجماعة
تبعات
مطاردتها
مرتكبي "المنكرات"
من اهلها واقاربها وابناء
قراها
وتصليهم حمم
حربها "الأخلاقية"
القويمة،
وهذا ما قد
يؤدي الى
حروب اهلية
وقرابية
في كل عائلة
وقرية ... فان
القسم
الثقافي في "حزب
الله" رأى ان
يشن حربه هذا
الصيف على
شبان القرى
الراغبين في
جرعات من
الكحول،
ويستبدلها
بعقده
اجتماعه العلمائي
الأول في قرية
مسيحية صغيرة
مهجورة،
الباقون
القلائل من اهلها من
المسنين هم "اهل ذمة" لا
حول لهم ولا
طول في تلك
الأصقاع التي
أمست قلعة
اجتماعية حصينة.
اليس هذا هو
المعنى
المقصود في
البيان العلمائي
الذي يوصي بـ
"شمول هذه
اللجنة كل
أطياف
المجتمع
وتنوعاته"؟
لكن البيان
نسي ان
يقول ان
ما تبقى من
هذه الأطياف
والتنوعات في
ديار التجانس "الأخلاقي"
والأمني
المرصوص، لا
يتجاوز
البقايا
الموحشة
والأشلاء.
وفي 12 تموز
الجاري (صحف
النهار
التالي) ضمت
الجماعة الاسلامية
في بيروت
صوتها الى
اللقاء العلمائي
الاول،
فأطلقت في
مؤتمر عقد في
نقابة
الصحافة حملة "لمكافحة
الفساد الاخلاقي
في هذا الصيف"،حضره
المطران الياس
عودة ومسؤولون
عن جمعيات
أهلية
واجتماعية
وتربوية. والفساد
الاخلاقي
في عرف
الجماعة البيروتية
السنية هو "تفلت
شاشات
المحطات
التلفزيونية
وتنافسها على
مخاطبة
الغرائز".
ثم ماذا لو
خطر في بال "لجان
الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر" الوليدة
في دردغيا
وغيرها من قرى
الجنوب، ان
تمد غدا او
بعد غد نشاطها
هذا الى
منطقة جزين
وبلداتها
وقراها، على
اعتبار ان
اهل هذه
المنطقة
ليسوا إلا "طيفاً"
من أطياف
المجتمع
اللبناني
التي يجب ان
يشملها، مثل دردغيا،
هذا النشاط "الأخلاقي"
الديني؟
ألا يكشف
اعتماد مثل
هذه التقنية
في مكافحة "المنكرات"
المفترضة، عن
ضرورة نقل "الحرب
الأخلاقية" الى ارض "العدو"،
بدل مباشرتها
بين الاهل
والاقارب
وأبناء الطيف
الواحد؟
والخبر
الصغير عن
اللقاء العلمائي
الاول في دردغيا،
مر مروراً
عابراً امام
أنظار
اللبنانيين
المنشغلين
بالتفجيرات وتشكيل
الحكومة. لكن
اللبنانيين
يعلمون ان
الحوادث
الكبرى التي
عصفت وتعصف في
بلدهم، بدأت اخبارها
الأولى صغيرة
وعابرة قبل ان تتسع
وتكبر وتصير
مدمرة.
وفي هذه
المناسبة
نستعيد هنا
صورة لقرية دردغيا
كما كانت قبل
سنوات، وكما
هي اليوم
مشرفة على
الاندثار او
الانقراض.
مديح الكآبة
والفراغ
لا يفارق زائر
دردغيا
الشعور بأن انقاذها
من الاندثار
قد فات اوانه.
والمهدد
بالاندثار
المحتوم، ليس
بيوتها العتيقة
المبنية كلها
بالحجر
العتيق، ولا
ملاّك البيوت
الغائبين في
معظمهم عن
بيوتهم، والموزعين
في ديار الله
الواسعة، انما
المهدد هو كل
ما يقوم من اواصر
وروابط بين
البيوت
وملاكها،
وبين القرية
وأهاليها. وغياب
الاهالي
عن قريتهم
وبيوتهم، هو
في حقيقته
تغييب مقصود،
ما دام صنيعة
الخوف
والحصار
والعزلة. فالقلة
القليلة
الباقية من اهالي دردغيا
في القرية
والبيوت، لا
تكتم شعورها
بالخوف واليأس.
فثلاثون
عائلة من
الشريط الحدودي
الذي كان
محتلاً، تحتل
ثلاثين بيتاً
في دردغيا،
هجرها اصحابها
في ازمنة
متباعدة
وظروف مختلفة.
ولو اقتصر الامر
على احتلال
هذه البيوت
الثلاثين
واللجوء اليها
من الشريط
الحدودي أيام
احتلاله، لربما
ما استبد
الخوف واليأس
بالقلة
القليلة الباقية
في دردغيا
من اهاليها.
فاضافة الى
البيوت
الثلاثين
المحتلة،
احتلت اربعون
عائلة من
القرى
القريبة
والمحيطة بدردغيا
اربعين
بيتاً من
بيوتها، من
دون ان
تكون
للاحتلال اسباب
غير خلو
البيوت من اصحابها
الغائبين،
وضعف شوكة اولئك
الباقين في
قريتهم
مقيمين على
الخوف واليأس والعزلة
في انتظار الرحيل
عن بيوتهم الى
غير رجعة. اما
البيوت غير
المحتلة في دردغيا
فلا يتجاوز
عددها الاثني
عشر منزلاً،
لا يقيم فيها
من اهل
القرية اكثر
من 40 شخصاً،
يعملون اما
في الزراعة واما في
وظائف عامة في
المنطقة.
ابو ايليا،
هو من الاربعين
المقيمين،
قال ان
الناخبين في دردغيا
يبلغ عددهم 800. وهذا
يعني ان
عدد سكانها،
بحسب الاقامة
الفعلية، يجب ان يتجاوز
الثلاثة آلاف
نسمة. الامر
الذي ينطوي
على مفارقة اكيدة: كيف
يمكن قرية لا
يتجاوز عدد
بيوتها
الثمانين ان
يتجاوز عدد اهاليها
الثلاثة
آلاف؟
الجواب عن
هذا السؤال لا
تخطئه العين،
فالناظر الى
دردغيا
من خراجها،
وكذلك العابر
في دروبها
وأزقتها بين
البيوت
الحجرية
العتيقة، لن
يغادره الانطباع
بأن القرية
مهجورة
خالية، الا
من حياة موقتة
حلت فيها. ثم
لا يلبث ان يستنتج ان البيوت
حجرية كلها
وعتيقة، على
خلاف البيوت
في القرى
المجاورة،
بسبب توقف نمو
دردغيا
العمراني منذ
ما لا يقل عن اربعين
سنة. اي ان القرية
لا تزال على
حالها من غير
زيادة ولا تجديد
منذ
الخمسينات
وما قبلها،
وهذا مصدر جمالها
الوحيد، برغم
انه جمال
الكآبة
والعشب النابت
في جدران
البيوت
الحجرية
العتيقة، وعند
التقاء هذه
الجدران بالارض.
انه عشب
الهجران
والقدم وخفوت
الحياة
وميلها الى
السلم
والرخاء
المتقشف، على
عكس الحياة
الصاخبة
العاتية
والفوضوية
الدابة في
القرى المجاورة.
هل نمدح
القرى
الخالية
المهجورة
التي توقفت عن
النمو
العمراني؟
ربما، لان لا
عاصم في لبنان
الحروب وما
بعدها، وربما
في ما قبلها،
من وحشية
العمران
وفوضاه الا
بخلو القرى والاحياء المدينية
من اهلها
وساكنيها،
وبتوقفها عن
النمو
العمراني والديموغرافي.
وهذا هو حال دردغيا
التي لا بيت
فيها جديد
مشيد باللبن
والاسمنت،
ولا قصر او
فيلا على
الطراز
المحدث
والمغالي في اظهار
ثراء اصحابه
المالي
وعنجهيتهم
المستجدة، في اعقاب
هجرة مالية موقتة في افريقيا او
الخليج، او
في اعقاب
غزو للدولة
والمدنية في
بيروت.
كم هي جميلة
الكآبة - كآبة
التقشف
العتيق في دردغيا.
وكم هي اليفة
ومحزنة كآبة اهلها الباقين
فيها، هكذا من
دون امل ولا
رجاء في ان
يستعاد فرح
العيش
المنقضي
وبريقه. ومن
صور ذلك العيش
مشهد
السيارات
الكثيرة في شارع
القرية
الرئيسي،
فيما الناس
تتمشى الهوينى
في امسيات
الصيف، ما قبل
الحرب. مشهد
طقسي من
أمسيات الصيف
في قرى
الستينات والنصف
الأول من السبعينات،
حين كان اهالي
القرى
اللبنانية
يغادرون
المدن
للاصطياف في
قراهم وعرض
واستعراض ما اكسبتهم اياه
المدينة من
عادات وازياء
وحركات وصور...
وبحسب
الكهلين
الجارين
الباقيين في
القرية، ابو
ايليا وابو جوزف،
لحراسة
بيوتها من
الاحتلال
وذكرياتهما
من الافول،
ان ثلاثة ارباع اهالي
دردغيا
كانوا مقيمين
ويعملون في
بيروت في
الستينات،
ولا يعودون الى
قريتهم الا
في فصول الصيف
وفي
المناسبات (الدفن،
الانتخابات... الخ)،
ولزيارة
المسنين من اهلهم واقاربهم
الذين ظلوا
على اقامة
دائمة في
القرية.
وكانت
عائلات دردغيا
(البدوي، الخوري،
الزرقا،
ازرق، ايليا،
رعد، وسمعان...)
تتوسع ويزداد
عددها في
المدينة، من
غير ان
تتوطد علاقات اجيالها
الجديدة
بالقرية. ومن الامارات
على عدم تنامي
هذه العلاقات
وتوطدها،
خصوصاً في اوساط
الأجيال
الجديدة من ابناء
القرية
الجنوبية، ان دردغيا
لا يُرى فيها
بيت واحد جديد.
الامر
الذي يفسر قدم
البيوت فيها،
كما يفسر
الهجران
تنامي العشب
البري بين
حجارة جدران
البيوت العتيقة.
وحدها الكنيسة
المبنية عام 1911
في طرف الضيعة
تخضع لأعمال
ترميم
وتجديد، كأنما
لثبوت بعض
الأمل في
النفوس بأن
القرية غير
مقبلة على
التلاشي
والاندثار. هذا
فيما شيدت في
خراج القرية،
غير بعيد من
الكنيسة،
حسينية قباب
سقوفها
ومئذنتها
مشيدة على
الطراز
المعماري الايراني.
واذا اضفنا
الى هذا
كله ما قاله ابو جوزف
مشيراً الى
حصول هجرات
متعاقبة من
القرية الى
اميركا واوستراليا
والبرازيل،
في النصف
الأول من
القرن
الحالي،
يتراجع في
الزمن المشهد
الراهن لخلو دردغيا من
سكانها
وانقطاعهم
عنها.
حين زرنا دردغيا
في العام 1998 كان
التلفزيون
يبث مشاهد
لزيارة
البابا الى
لبنان. في
منزل المدرس جوزف رعد
التقينا
بعضاً من
الرجال
المقيمين على "الصمود"
في دردغيا.
كأنما مشاهد
الجموع
الهائلة
المحتشدة
لاستقبال
البابا في بيروت
او في بكركي،
كانت تقوي من
عزيمة هؤلاء
الرجال على
البقاء وتبعث
في قلوبهم
شيئاً من
الرجاء.
وكم كان
سيكون منزل
المدرس
الأعزب
المقيم وحيداً،
موحشاً في ذلك
النهار لولا
صوت
التلفزيون ومشاهد
الجموع على
شاشته.
العمالة
والخوف من
الصور
في الخارج
القريب حين
رأينا، في
جولتنا، رجلاً
ملتحياً
يرتدي ثياباً
سوداء كلها،
وينصب على سطح
منزل هوائياً
للتلفزيون،
ما كان صعباً
علينا ان
ندرك انه "محتل"
جديد قادم من احدى
القرى
المجاورة. فغافله
احدنا ووجه اليه عدسة
الكاميرا،
فما كان منه الا ان
غافلنا بعد قليل،
وبرز امامنا
فجأة واعترض
طريقنا
قائلاً في صوت
عدائي حاسم ان نعطيه
الكاميرا. رفضنا
قائلين اننا
صحافيون،
فتراجع
معتذراً وذهب
من حيث اتى،
بعد قوله لنا
انه ظن اننا
عملاء للعدو.
ما العلاقة
بين الخوف من
الصور
والشعور الهذياني
بأنها ستصل الى
العدو، وبين
احتلال
المنازل التي
هجرها اهلها
وأعمال الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر؟
فيما نحن
نخرج من دردغيا
كان علي ان
اتذكر
ذلك النهار
الخريفي
القديم من عام
1976، الذي اتينا
بعيد ظهيرته
من ارزون
القريبة الى
دردغيا
لشراء زجاجة
نبيذ عزّ
وجودها في اي
من قرى
المنطقة،
ويعزّ وجودها
اليوم في دردغيا
التي اقلعت
عن بيع النبيذ
كي تتفرغ لبيع
الوحشة.