السلاح الأقوى

الأب/سيمون عسَّاف

عودٌ إلى بدء. يندرج السؤال المألوف حول صراع الطوائف في لبنان.

نتيجة الطائفية عاث الفساد والخراب واستعر البغض الديني وتلظَّى الحقد الدفين، فتحوَّل القتال دفاعا عن الدين لا عن الوطن. لاحت أشباح الشؤم وجندلت القتلى وأذكت الحرائق وبثِّت السموم وهدمت هيكلية الدولة. خاض خضمّ الجنونِ على الساحة شبابٌ يقتحم بشراسة غضبى غوائل الموت كأن أبالسة جهنم تلعب بالنار مُقهقهةً في أعراس جهالتنا. بُدَّلتْ زهوةُ الأجراس إلى حزن وصياح المآذن إلى نواح.

ضحايا أبناءُ شعبنا سقطَوا، دُمِّرت الأرزاق زُهقت الأعناق هاجر الكثيرون فتقوَّض لبنان وخسر كنوزا لا تعوَّض، أجل كان الوقودُ دمّاً وجماجمَ وعظاماً لم تُشبِع مجاعة المقابر. ثم عبثت أيدي الغرباء والغاصبين منتهكة حرمات مهتكة كرامات مدنسة مقادسا، ناهيكم عن سفالات وبشائع وشنائع وتهريب وسفاهات ومخدرات. سراديب دامسة ودهاليز مظلمة تشبه قصص الأبطال الخرافية والى الآن لم نتعلم ولم نتخذ دروسا وعِبَرا.

وتخرج دولة محتلة لتدخل دولة أُخرى مكانها. وهكذا دواليكم ملهاة-مأساة (تراجيكوميديا) في آخر مطاف المهرجانات الدامية سلاح حزب الله. كيف يكون الحل وأرضية الدولة اللبنانية وثوابتها مفقودة الأركان ضعيفة البنية مشلولة الأعصاب مترجرجة الخُطى.

من تراه القادر على تجريد هذا الحزب من سلاحه؟

صدر قرار عن الأمم المتحدة يفرض إزالة الميليشيات وتجريدها من الأسلحة، ولم ينفّذ حتى الآن، فمن بمستطاعه إعادة هيبة السلطة في هذا المناخ المحموم المشحون بالتحدِّيات؟

نعم يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الاستحقاقات الآتية، والمستجدات مسارعة بالأخطار والحدثان. هل هو المجهول يحدو بنا للانتحار أم أن الأيام المستقبلية تفاجئنا بالجديد المرجو والمأمول المنتظر؟ بتنا لا نكاد نصدق ما كنا نسمعه بالأمس- من معارك كلامية نابية خرجت عن دوائر الأدب تجمع على محور الهنيهة بين زعماء الطوائف لتوحيد الرأي وتخليص الوطن.

أدرك الجميع أنهم فشلوا بمشاريع الهيمنة وليس ثمة من سفينة نجاة إلا بالاتفاق والاقتناع بتوحيد القراءة والرؤيا ووحدة العيش المشترك.

كفانا استفرادا واستبدادا واستبعادا واستعباد ومخيبات. هيهات يعلو شرف علم البلاد ليفخر به رأسَ كل لبناني أصيل. لا فرق في الرُتَب زعيم كان أو مزعوم طالما الهدف إعادة عمار الكيان. وجب أن يورف فوق الجميع ظلُّ خلود الأرز ويُسْتَظّل بالمقابل. وعى في اعتقادي هذا الواقع أسيادُ الكلمة ما عدا "حزب الله".

كان السيد وليد جنبلاط يتهجم مطلِقاً سهامه على الجنرال عون، وها هو يصافح والآخر يصفح. ما ضرَّ لو التأم شمل الأحبة وائتلف في الوزارة والنيابة بعد ثلاثين سنة فقر وكبت وقهر وعذاب وتشريد وحرمان وتهديد ووعيد وخطف ونسف وختل وقتل وإرهاب وتهريب وإجرام وتهجير وهجران؟

يبقى سلاح التفاوض هو الأقوى، فالكلمة المُصلِحة بالمِلح أنبل من اللجؤ إلى اعتماد الأسلوب العنفي والسلوك الرفضي. ليس بالخنجر والبارود يتم التفاهم والاستئناس بالرأي بل بعقلية رياضية منفتحة تغمر سائر الشرائح البشرية في مجتمعنا المدني المتمدن. سلاح اللبناني الأمضى هو الجلوس على طاولة مستديرة لوضع أسس جديدة تحفظ حقوق الإنسان بشتى المستويات.

واللحظة قائمة تستدعي الحظر والحذر. بالقوة والعناد محالٌ بناء الوطن. حل مشاكل المجتمعات بالمرونة والليونة والانعطاف. إنه فرضٌ علينا التخلي عن لغة الهيمنة والأكثرية والأقلية والتقدمية والانعزالية الخ. يتم التناغم والانسجام بين أهل البيت الرابض على خاصرة الأزرق المِغْناج كفتى يحلم بأبدية الغبطة حين يكون للاحترام المتبادل إمكان ومكان.

عاداتنا والتقاليد أخلاقنا والقيم كفيلة بلملمتنا من شتات واسترجاعنا من غربة وضمان استقرار لنا طويلا.

عيب أن نعبث بجنتنا الحالمة ونستأثر بتقرير المصير وقضية الوطن لغايات في نفس يعقوب.

ماذا يريد حزب الله حتى لا يسلم السلاح؟ هل في نيته الاستيلاء على البلد وهو يعلم أن الأمر هذا غير واقعي وهدف مستحيل المنال؟ ماذا يُبطن في سره بإصراره على الإمساك بالسلاح، هل يخاف من مواطنيه؟ هل صحيح أنه يبغي مواجهة إسرائيل ومجابهتها، أو هل يوَّد إقامة دولة بمفردة قابضة على مقدرات ومرافق ومرافئ البلاد؟ أسئلة لا حد لها ولا عد تطرح نفسها في سياق الظروف التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط، وهل اللبنانيون صادقون في اعترافهم أن حزب الله مقاومة أم مسايرة وفزع من ألف حسبان؟

فيما لو افترضا أن "حزب الله" ليس ميليشيا بل مقاومة، فهو يقاوم مَن، وهل للحزب مقومات دولة، وبالتالي ما هو دور الدولة وماذا تفيد المواطن وما هو مبرر وجودها في هذه الحال؟ هل فعلا يقاوم إسرائيل أم يمازح موهماً إيانا بقدرته الباطشة؟ هل يظن حزب الله ولو للحظة أن الشعب اللبناني يجهل قدراته العسكرية المحدودة جداً والبدائية جداً مقارنة مع ترسانة إسرائيل المتطورة والرهيبة، وهل يتوهم أنه بالفعل قادر على ردعها؟

نحن نتساءل لا من باب الغرضية أو الكراهية بل من باب الحرص على وجود لبنان الدولة والشعب والمؤسسات. لَكم سمعنا ونسمع الجدل البيزنطي عبر وسائل الإعلام والمداخلات والمرافعات والسفسطائية التي لا تجدي نفعا ولا تقنع أفعى.

نرفع إلى إله العرش ابتهالا للنهوض معا من مغطس الخجل والعار والارتقاء إلى ذرى الفخر والخيلاء. عسى السماءُ تستجيب لنا فتنتعش حضارتنا وتتباهى ثقافتنا ونكون بالفعل شعبا ربيب الحرف والفتح والريادة والبشارة والانفتاح. ثم نحتفل بعيدي القيامة والخلاص.

لله يا وطني التاريخُ جاد على                  أجيالك القُدَما بالفكر والشرفِ

 لك القدامسةُ الأحفادُ معقلهم                    لبنانُ والشمسُ للترفيهِ كالشُرَفِ

تبقى وإن خانك التحريرُ في زمنٍ            عزَّت رجالٌ، فجُنَّ الإرثُ من ترفِ

عاد الشموخُ يُغني، الأرزُ منطرِبٌ           صانَ الحمى كلُّ جفنٍ رفَّ بالطرفِ

     

16 كانون الثاني 2006