تراجيديا لبنان

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

 

ترى أي دواة أغمس فيها قلمي، ريشتي، يراعي وأنا اكتب ملحمة بلادي المأساة؟

عندما أتحدث عن  لبنان، أعني تحديداً أصداء المواويل وزهوة الأعياد وأعراس الزجل وتلوّن الفصول والمواسم على البيادر والمعاصر في تفاعل دائم.

أطرّز كلماتي على وشم التاريخ ليسكن المكانُ فينا والزمان في وجداننا بكل ما يملك من ثقل وعلو وعمق ووزن وقياس.

صورة الوطن المسلول المشلول الصارخ فينا بألم سالخ وأمل باكي وعاطفة شاكية هي نموذج عاصمة ومدينة سلبها فسق المسؤولين وفحش السياسيين وفساد الحكام.

بات وجعنا نبض شرايين الناس كل الناس، معاناة إنسانية اضطهاداً وفرحاً وأشواقاً أيضاً.

 

إذا كانت القصيدة البليغة، صوفية أو إشرافية، لا تنتهي إلا لتأخذ بيد المناضلين نحو الهدف الأسمى، الإنسان، تشد به إلى الأصل إلى السماء، تسعى إلى التقارب والتفاهم والتواصل والتلاقي، وتوحيد المفاهيم وأذواق البشر!

 

كذلك تكون بلادي بيت القصيد الأفصح ومن نوع أخر، بوحدة هموم وأحاسيس ورؤى وأهداف وانسياب مشكَّل من قلب الواقع الأرزي في المشرق المذبوح.

وحدة الشعب تقوم بفرح وحبّ وفكر ومشاعر، ورسالة تجمِّع ولا تفرّق، كما بوحدة قيم وتقاليد وعادات وتطلّعات وتاريخ ولغّة وهوية وتراث وانتماء.

أجل قصيدة حبنا هي هذا الوطن، حُبكت في نسيج العَلَم، في رايات الطفولة والشباب والأمّهات واللهف والمحبّين وحكايات الجدود وطنِّ الجرس وصوت المئذنة، في الضمائر والنفوس وفي ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

 

من أجل هذا الدفق الذي يمدّنا ويُمَدِّننا من أجل هذا المجد والعز والفخر والعُجب والشموخ والعنفوان، يصحو النداء مندداً بالسياسيين المسؤولين علَّ ساكناً يتحرك.

إننا نتموّج مع قضايانا الصغرى والكبرى، نحمل وجع الخيام ومشاكل المخيّمات ومبادىْ المقاومين الشرفاء، كما نحمل للرعاة والكرّامين والفلاحين والعائدين، الأمان والسلام والعطر ومفاتيح البيوت والكنائس والمعابد، الغنيّة بالشيم والأخلاق والنجاوى والأناشيد والترانيم والتأملات، النابعة من صُلب الطبيعة المنطوية على ألغاز الأرض وأسرار الوجود وقلق الإنسان.

 

كل أمر عندنا يستنهض عناصر الكون:

النار التراب الماء الهواء، ومن جذور التربة الإنسانيّة من كدح وعرق العامل، ومن معايشة المهجّر والمهاجر المقلوع من جذوره وأرضه ومقدّساته يصيح الحنين وتنتحب اللوعة في النقد السياسي للحاكم في بلد الأرز، نقد يمثل العنصر الصالح الذي يحارب الظلم والجَور والذي يُعتبر تصرفاً معاكساً مشاكساً في يقين المستفيدين والأنانيين والوصوليين والأغبياء.

 

كفى المسؤولون هروباً إلى الأمام بغطيطهم في الغيبوبات على امتداد الانتفاع والناس انتظار.

حرام أن تُهان فخامات الهياكل الضخمة في حيِّنا برجالات يلذ لها قهر العباد وتشليع الكيان.

ماذا يرد الكلام على صمت معالم السياحة وكأنها خرائب مزارات بين هياكل بعلبك الرومانية الأثرية وقصر بيت الدين الشهابي وقلعة بيبلوس الفينيقية وملعب صور الروماني؟

 

كيف الوقوف في حضرة التاريخ وهو يجذب العديد من السياح، والماسكون مقاليد السلطة يجهلون نفائس المتروكات الحضارية في خزائننا؟ 

أهم ظاهرة فنية وثقافية عرفها لبنان بقراءة تحليلية سياسية واجتماعية، من خلال تحقيب النتاج المرحلي سياسياً إلى مراحل من أجل إعطاء فكر خلال مواكبة فترة ضاجة بالصراعات من تاريخنا هي مآدب الفن المبدع التي أولمت عليها القافلة الحبيبة.

لبنان هو رسم من أحلام اليقظة وصورة مصغرة عن شعبه العريق الذي ليس هو خارج الواقع والتاريخ، وليس قصة جماعات وهوية جمعيين، بقدر ما هو ميدان لانبثاق الأفراد داخل الجماعات. 

 

نأمل أن يهز الوعي القادة والزعماء لتوقير واحترام الإرث الثمين والأمانة الغالية في عنق القيمين، وإلا كَمَن يستجير من السيخ بالجزار.

من يقرأ التاريخ، لا شك يراقب المحسوس، يرجع إلى سطور الأجيال، للبحث عن أصل الحكاية تاريخياً، يفيد بالكشف عن مستور تاريخي، ولكن التأمل في الذات، هو الرجوع إلى القاع الإنساني وهو يفيد بالكشف عن المستور النفسي والوجداني، والصيرورة الإنسانية.

إن القلم الخالص خامل، والريشة البيضاء خرساء، واليراع النظيف أبله! والمصدر الجوهري هو قاع النفس، قواها، قدراتها، أحلامها، هذيانها، وعيها، بياضها، سفالتها، شيطانها، ملاكها، وحتى تاريخ الإحالة هو قطعة من تاريخ النفس.

 

تفادياً للكثير من المفارقات والمشاكل، أرى من الممكن أن أقول أذا تعاملنا مع الفلسفة بأبعادها المدرسية المعروفة، حيث نفسر الوجود بأدوات ومفاهيم محصورة، متفق عليها تقريباً، العلة والمعلول، الشدة والضعف، الوجوب والإمكان والممتنع، الغائية والصورية والمادية، نشرح دوران الوطن في أتون التخلف الحالم. في حالة صلح مع الذات، صلح مع التاريخ، صلح مع الواقع، تختلف المعادلة تماماً في حالة مناقضة.

 

ومع ذلك فإنه عندي ليس إلا جوهر التراب الإنسان المقدود من صميم الأديم عندنا.

تراجيديا ضخمة، مهولة، مخيفة، ولكن أين يكمن السر المرعب؟!

 

أين يكمن السر الدفين؟ أين؟

هل في التعددية الطعينة أم في الطائفية اللعينة؟

 

مشوار لبنان تراجيديا وسيبقى على مسرح القرون، ولو كُشِفَ السر لمات، ولتحول إلى معرفة مبتذلة، لتحول إلى شهادة فهم مبهم، ولكن لأنه تراجيديا دائمة على مرمى الزمن، تحول إلى حاكم على التاريخ، وليس محكوماً به.

28 حزيران 2006