ميشال عون ورحلة السقوط

الياس بجاني*

 

علّق نائب رئيس الحكومة السابق اللواء عصام أبو جمرا على النتائج الأخيرة للانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان معتبراً أن ما حصل كان واضحاً ومعبراً وقد تلقى المسؤولون الرسالة. ورفض في حديث إلى "المركزية" الدخول في تفاصيل هذه النتائج لأنها كانت واضحة وقد عبرت عن واقع الحال، وتالياً تلقى المعنيون الرسالة، وقال: "من يزرع الريح يحصد العاصفة، ومن يتحالف مع الفاسدين لا يحق له التكلم على الرشاوى". واذ لفت أبو جمرا إلى أن التحالفات مع كل الناس هو دليل الضعف العام، أشار إلى أن مَن يعتبر نفسه فاعلاً في منطقة ما، عليه اقلّه أن يحقق بلديات بعدد المقاعد النيابية التي حصل عليها في العام 2009.

 

صحيح إلى حد كبير هذا الكلام، ولكنه ليس كل الحقيقة، فالعزيز أبو جمرا ومن خلال رزم تجاربه الشخصية المرة يدرك تماماً أن ميشال عون لا يرتاح إلا لمن يُمجد به وينفخ في أوهامه ويتماشى مع هلوسته السلطوية والرئاسية تحديداً، ولنا في هذا السياق خير مثال في الدور "البالوني" والطروادي المُكلف به النائب عباس الهاشم.

 

عون كما هو معروف ومعلوم للجميع لا يتحمل أي نقد، ولا يسمع إلا صوته، ولا يقبل أي نصيحة، ويعادي ويُبعّد عنه كل من يحاول نصحه، كما أنه لا يتحمل وجود مستشارين أو أصحاب رأي حر بجانبه، والأخطر أن لا وفاء عنده، ولا عرفان بالجميل، بل جحود قاتل وجامح. أما فكره وممارساته وانفعالاته المتفلتة باستمرار ولسانه السليط، فتتحكم بهم عقدة "الأنا"، ونقطة على السطر يا عزيزنا اللواء أبو جمرا!!

 

عون لم يزرع الريح فقط ليحصد العواصف، لا، بل زرع موبؤات البهلوانية "والنطنطة" والجحود الفاقع والطمع والحسد والغيرة، كما زرع سموم الفتن والنميمة والشك والحقد والانتقام والكراهية، فكان أن شرب هو كأس هذا السم القاتل بنفسه بعد أن جرفته أهواء ونزعات شيطانية قضت على الكثير من رصيده ومصداقية وشعبية.

 

كان من المفترض أن ينتهي عون سياسياً ووطنياً وزعامة مع توقيعه "ورقة التفاهم" الكارثة و"الخطيئة المميتة" مع حزب الله سنة 2006، متخلياً عن ذاته وكل ماضيه وشعاراته، وعن دم وتضحيات الشهداء، ومنقلباً على ثوابت المسيحيين التاريخية كافة، إلا أنه استمر في موقع قيادي ملتبس ومميز ليس بفضل ذكائه وبعد نظره ووطنيته وإخلاصه للوطن وتمسكه بالسيادة والحريات والاستقلال، ولا بسبب خوفه على مصالح المسيحيين، وليس من خلال خدعة مشروعه الكاذب الداعي إلى محاربة الفساد والإقطاع والعائلات كما يحاول إيهام الناس واللعب على عواطفهم وخوفهم واستغلال معاناتهم. لا، لا، هو براء من كل هذه الشعارات، وبالواقع المعاش والملموس مارس ويمارس نقيضها تماما دون خجل أو وجل وبوقاحة الأبالسة.

 

لقد أبقاه في موقعه المحور السوري-الإيراني ومرتزقته المحليين مسنداً بدعائمهم وإطرافهم الصناعية، وبواسطة رافعاتهم وودائعهم المذهبية، وذلك خدمة لمشروعهم الإنقلابي حتى استنفذوه ومن ثم لفظوه وكانت شعرة الانتخابات يوم الأحد الماضي هي التي قصمت ظهر البعير.

 

هذا، وبعد هزيمة الجبل ها هو قد لُفِظَ كلياً من بيروت بعد أن تخلى عنه حزب الله وحركة أمل وحزب الطشناق. أما في زحلة فهو إن كان يلعب دور "الرابوق" تنفيذاً لفرمان سوري هدفه شد عصب سكان عاصمة الكثلكة ودفعهم للالتفاف حول المرشحين الذين يؤيدهم ايلي سكاف، أو أن كان فعلاً معانداً ويريد إثبات حضوره، فالنتيجة واحدة حيث أصبح مهمشاً لا وزن ولا دور له في المدينة. وأغلب الظن إن حاله الانحداري في الشمال والجنوب لن يكون أفضل، لا بل ربما أسوأ بكثير. حقيقة لقد انتهت زعامة هذا الرجل الذي تمكن سنة 2005 من الحصول على تأييد مسيحي غير مسبوق في تاريخ لبنان المعاصر.

 

لماذا هذه النهاية المدوية بفشلها؟

الجواب يكمن في ضحالة إيمانه وفقدانه للرجاء وفي مركبات عقده والكفر الذين أوقعوه في تجارب وشباك إبليس، فعبد السلطة والنفوذ والزعامة وغرق في أحلام اليقظة والأوهام والنرجسية وسكنته أرواح الشياطين.

 

لقد كفر عون بعطايا الناس له وبثقتهم، فعبد العطايا وداس الثقة ونسي الناس وراح يتجبر ويستكبر ويتطاول على الأشراف والمرجعيات بلسان سليط ومفردات مستعارة من قواميس الرعاع وأهل الشواذ. باع قضية الوطن المقدسة، وتنكر للمعتقلين من أهلنا في السجون السورية، وتخلى عن أولادنا اللاجئين في إسرائيل، وساند سلاح الغزوات والقتل، وانقلب على الدولة وعلى مؤسساتها، وأعلن جهاراً عداءه للقرارات الدولية وللغرب ولثقافته وللمجتمع المدني وللدستور وللتاريخ والهوية ولكل الأعراف والمبادئ.

 

من هنا فإن كل الدعوات التي صدرت عن قيادات وسياسيين عقب سقوطه المدوي يوم الأحد الماضي في الجبل، مناشدة إياه التعقل ومراجعة خياراته والاتعاظ والاستفادة من السقطة، هي بالواقع نداءات سوف تقع على آذان صماء وقلب متكلس وضمير مخدر لأن الرجل وكما أقرانه في الانسلاخ عن الواقع وبناء القصور الوهمية وخوض المعارك الدونكوشتية من أمثال صدام وهتلر وموسليني وستالين لا يسمع إلا صوته، ولا يتعلم ولا يتعظ، وفالج لا تعالج.

 

إن زعامة عون في الأساس صنعتها أيدي وتضحيات ونضال الأحرار والسياديين والمناضلين الأشراف من أهلنا في الوطن الأم وبلاد الانتشار، وها هم أهلنا هؤلاء اليوم وبراحة ضمير بدأوا فعلاً عملية لفظه من ضمائرهم ووجدانهم ليستردوا ثقتهم منه بعد أن خانها وتاجر بها وعرضها في سوق النخاسة وراهن على قميص الوطن. إن العملية هذه ليست سهلة وقد تأخذ بعض الوقت إلا أن بوادرها كانت ساطعة في الجبل والباقي من فصولها آت لا محالة.

 

يا أيتها السماء أمطري الخير والسلام والمحبة على شعب بلادي المؤمن، وأنت يا وطني الحبيب المقدس صانك القدير ورد عنك الأذى وكل شرور الأشرار وخبث الإسخريوتيين.

 

يبقى إن الشعب اللبناني يُمهِل ولكنه لا يُهمِل.

 

الكاتب معلق سياسي وناشط لبناني اغترابي

*عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com

*تورنتو/كندا في 6 أيار/2010