نصر الله والثقافة
القاتلة
بقلم/الكولونيل
شربل بركات
أضطر سماحة السيد حسن نصر الله اليوم إلى الالتجاء لفتوى دينية لكي يضبط الشارع ويسحب جماعته منه خوفاً، كما قال، على البلاد من أن تدخل في الفتنة، أو ما يسميه البعض الحرب الأهلية. فلماذا يلجأ السيد للفتوى الدينية، وهل أن الكلام العادي لم يعد يجدي مع الأتباع؟ وهل أن الشرخ الذي أُحدِثَ صار أكبر من أن يضبطه الشعور بالمصلحة المشتركة؟ وإلى أين يقود "سيد المقاومة" شعب لبنان؟ إلى حتفه وسقوطه في دوامة التقاتل التي لم يعد يوقفها اليوم سوى الفتاوى؟ وماذا سيوقفها غداً إن تجرأ آخرون على الافتاء بالاتجاه الآخر؟...
أسئلة لا بد أن تطرح ولا بد للبنانيين أن يسمعوا توضيحاً عنها من كل الذين يدّعون المسؤولية، ليعرفوا إلى أين يقود الحقد الأعمى، وأي جيل أنتجت "مقاومة" نصر الله، وهل من يتربى على الحقد قادر أن يرى شيئاً غيره؟
عندما أقدمت بعض الدول الغربية على منع أنشطة "حزب الله" في بلادها بسبب تصنيفه ضمن المنظمات الارهابية، حدث جدل حول ما إذا كانت المؤسسات التربوية والاجتماعية التي يرعاها "حزب الله" هذا يجب أن تدخل ضمن الممنوعات. وهل يمكن أن تُحرم مؤسسات اجتماعية أو صحية أو تربوية من المساهمات التي يقدمها رعايا هذه الدول. صحيح أن الغرب يتسم بالعملية، ولكنه ضعيف أمام الأمور الاجتماعية والانسانية، وهو يعتبر أن المساهمة في هذا المجال عمل مقدس ومحترم يزيد بتقدم البشرية جمعاء، ويساعد على تخفيف المشاكل في عالمنا الذي يعتبر أصغر من أن نستطيع التعامي عن تأثيرها فيه. ومن هنا قامت الصحف وبعض الأحزاب تستنكر أن يشمل الحظر النواحي الانسانية لحزب الله أو أي تنظيم يصنف إرهابياً. وهكذا بقي الشق الذي يتعاطى بهذه الأمور غير ممنوع في بعض الدول بالرغم من حظر نشاطات الحزب الأخرى واعتبارها خارجة على القانون.
ولكننا، ويوماً بعد يوم، بدأنا نرى تفهما لضرورة منع هذه الأحزاب، وعلى رأسها "حزب الله" هذا، من التعاطي في الشأن التربوي أو الاجتماعي أو الصحي، لأنه أقنع بالممارسة من لم يقتنع بالمنطق، بأنه خطر على المجتمع، لا بل يجب أن يُعتبر خطره في هذا المجال أكبر بكثير من الخطر الذي يشكله الارهاب المباشر، فهذا يؤثر بواسطة الثقافة التي ينشرها أكثر بكثير من تأثيره في النشاطات السلبية ذات الطابع العسكري، لأنه يحضّر أجيالاً منغلقة الفكر لا تعرف شيئاً عن الآخرين وهي مستعدة في أي وقت للانقضاض، كما الحيوانات المفترسة المقيدة والتي ما أن ينزع عنها القيد تهجم بدون أي سبب على كل من يقف في طريقها.
يوم تعرض أحد البرامج التلفزيونية الانتقادية الساخرة" للسيد" كواحدة من الشخصيات السياسية اللبنانية البارزة التي يتناولها في برامجه، قامت ثورة تخريبية توجهت نحو الأحياء المسيحية من بيروت ولم تأخذ بالاعتبار التحالفات السياسية التي كانت تتحضر، وأخطر ما في هذه الثورة، يومها (كما هو اليوم)، إدعاء السيد بأنه أرسل الأجهزة الأمنية الخاصة بالحزب لحماية كنيسة الشياح من الاعتداء، وقد كانت المكان الرمز الذي اجتمع فيه مع الجنرال "للتفاهم" حول الأمور المصيرية (ويا ليتهما لم يجتمعا). قيل يومها، وفي مجال الدفاع عن من قاموا بهذه الثورة، أنها رد فعل تلقائي وعفوي لما اعتبر إهانة للسيد، ولكننا رأينا فيها كما في سابقاتها وفيما لحق، نتيجة طبيعية لثقافة الحقد والانزواء، ثقافة الانعزال والانطواء، ثقافة الرجوع أي التخلف وليس حتى الأصولية. هذه الثقافة التي ينشرها حزب الله وبعض أمثاله في فئات أخرى، ستؤدي يدون أدنى شك إلى الاقتتال، لأن التقوقع وعدم التعرف على الآخر هو السبب في الخلاف، وليس الاختلاف في المظهر أو الفكر أو المنبع أو الانتماء. فالتعرف على ثقافتنا شيء جيد، ولكن يجب أن يتبعه تفهمنا لثقافة الآخرين وحقهم في الاختلاف ومحاولة التعرف عليهم وعلى فكرهم لكي نتمكن من التعاون، أما أن ننطوي ونعتبر أننا وحدنا العارفون، ووحدنا المنقذون، ووحدنا القادرون، ووحدنا المحررون، ولا أحد يمكنه مجاراتنا، فتلك مشكلة تخلق التصادم وتسرع في المواجهات.
لقد سادت العالم نظريات كثيرة قالت بالتفوق قوقعت في شباكها مجتمعات وشعوب لم تكن الآرية الهتلرية أولها ولا آخرها، ولكنها، بالرغم من ضبطها للمجتمع الالماني وتشكيلها قوة متطورة، اضطرت إلى المواجهة التي قادتها نحو الهلاك وقادت الشعب الألماني نحو القهر، ولم تكن الشيوعية أفضل بكثير من النازية أو الفاشية، وقد انتهت كلها في غياهب التاريخ ملطخة بالذكريات المرة لشعوب تألمت معها وها هي اليوم تناضل مع الديمقراطية المنفتحة التي تعرف أن للآخر الحق بالحياة، وأن الحكم دورة، وأن القدرة هي بالصبر والمتابعة، وأن حق الشعب على الحاكم أن يؤمن له مجالات العمل والانتاج، مجالات التنافس على الأفضل والسعي الدؤوب إلى التقدم والتطور.
ما يؤلم بالفعل أن لبنان وبعد ثلاثة عقود من التقهقر والمراوحة، ثلاثة عقود من الانتظار ليخرج الاحتلال، ها هم زعماؤه يتقاتلون ويدفعون البلد للتقاتل، فلا يقدر من انتظر 15 عاما في المنفى وعايش أفضل الديمقراطيات في العالم، ونظّر في مجال الحكم والحريات، أن ينتظر سنة أو إثنتين كرئيس للمعارضة يأخذ احترام العالم، ويراقب أخطاء الحكم في سياسته وإدارته للبلاد، لينال ثقة الناس أكثر فأكثر، ويعلمهم الصبر والانضباط والسلوك الراقي، الذي يساهم بالاستقرار، وفي نفس الوقت يعلمهم ممارسة حقهم في صناديق الاقتراع حيث يكافأ الصالح ويسقط الطالح. ولكن وللأسف يسارع إلى التعلق بأي وهم، ولو كان قطار التبعية والتخلف، قطار الحقد والانعزال، قطار لا يعرف لبنان ولا هو ناضل مرة في سبيله، وهو إنما يسير بالبلد إلى الهاوية، هاوية أحقاده التي ترتكز على عقد لم تجلب إلى اللبنانيين سوى الدمار والخراب ولم تعدهم إلا بالمزيد من الشر والحقد.
فتاوى نصر الله اليوم تضاف إلى معسكراته في ساحة رياض الصلح وإلى ما سبقها من تكليف بالانتخاب وآخر بمنع أي شيعي من القبول بمنصب وزاري وما هناك من تصرفات غريبة عن لبنان وتقاليد شعبه تدق من جديد ناقوس الخطر، وتحاول إظهار هذا البلد وكأنه وطن لا يمكن أن يعيش، وأن أهله مشروع فتنة دائمة، وهم لا يستحقون ما يقوم به العالم من أجلهم، وأنهم بغياب سلطة خارجية تفرض عليهم النظام سوف يخربون البلاد ويعودون إلى العهود الغابرة حيث لا يسود سوى قانون الغاب، وهذا هو ما يرمي إليه نصر الله وأسياده في دمشق وطهران بدون شك. فهل يقبل اللبنانيون بهذا؟ وهل يفضلون حكم إيران وسوريا على التفاهم والمداورة في الحكم كما هي الحال في بلاد العالم؟ أم أنهم نسوا كيف تُضبط الألسنة ويلجم التهور ويحترم الآخر ليبقي لنا شيئا من الاحترام؟
تورونتو- كندا في 26 كانون الثاني-2007