الحقد لا يبني دولا

بقلم/الكولونيل شربل بركات

 

لم يكن الحقد مرة أساسا كافيا لبنأ الأمم ولا لتنظيم الشعوب بل كان دوما السبب الرئيسي في انحدار القيم وتفتت المجتمعات من هنا لا بد لنا من قراءة في الأحداث التي لا تزال تجري في وطن الأرز منذ أكثر من نصف قرن. فوحدة اللبنانيين لم تقم ، على ما يبدو، على التكامل في بناء الوطن ولا على التطلعات الحقيقية التي ترتكز عليها آمال الفئات المختلفة منهم والتي تشكل هذا المزيج المفترض بأنه متجانس نوعا ما بسبب ما مر على المجموعات الحضارية التي يتالف منها نسيجه والتي كان لا بد لها من الانصهار في بوتقة ما سمي بوطن التعايش. ففي الجهة المسيحية نجد تنافرا كبيرا خلال حقبات التاريخ بين الكنائس المختلفة عقائديا وصل في بعض الحقبات إلى التقاتل باسم الدين كما نجد نفس هذه الخلافات بين مركبات المذاهب الاسلامية ولكن التفتيش عن جامع لكل هذه الفئات ليس بالأمر المستحيل ولا هو بعيد عن الواقع لأن الامبراطوريات الكبرى التي تحكمت بشؤون الناس خلال التاريخ أظهرت للجميع بأن الكأس المرة يشربها كل الجيران مهما اختلفت الوانهم والقهر والظلم يبدوان دائما أكثر تعميما من الرحمة أو توزيع الثراء والرفاه.

 

المراقب للأمور في بناء الدول الحديثة في منطقة الشرق الأوسط يجد بأن ما حاول التشديد عليه كافة الحكام في هذه الدول للتمكن من قيادة شعوبها كان توجيه الحقد لجهة خارجية قد يسهل اقناع الأغلبية بمعاداتها فكان الكلام على الاستعمار كعنصر غريب يسهل توجيه الحقد عليه ثم على الصهيونية بعد قضية فلسطين وعلى الاقطاعية والرأسمالية الجشعة في الأنظمة اليسارية التي توالت على الحكم. وقد نجحت هذه نوعا ما بتشكيل اجماع على توجيه الحقد ما مكن المجتمعات في هذه الدول الناشئة من الاستمرار بالعيش "المؤقت". ولكن مشاكل الناس لا تحل فقط بخلق أنواع من الحقد والعمل على توجيهها لأن للناس حاجات يومية لا ترتبط فقط بالاعداء "الوهميين" الذين يعمل الحكام على ابرازهم والمشكل هو عندما يصدق هؤلاء الحكام بأن مهمتهم الوحيد هي الاستمرار باللعب على زرع الحقد وتغذيته بدل التفتيش عن أفكار إيجابية تسهم في تحفيذ الناس على الخلق والابداع اللذين يساعدان على حلحلة المشاكل المعيشية وزيادة الانتاجية وتأمين نوع من العدالة الحقيقية والفرص لكل المواطنين بدون تمييز قد تسهم مجتمعة في انماء الروح الوطنية وتقدم البلاد نحو التكامل في تعاون أبنائها ومن ثم التكامل والتعاون مع الدول الجارة في سبيل خير البشرية جمعاء.

 

لقد ركزت دول الشرق الأوسط على عداوة إسرائيل وتنمية الحقد تجاهها مدة سبعين عاما ونيف تغيرت خلالها الأنظمة والحكام في هذه الدول عدة مرات وظل الحقد عينه وبقيت مشاكل الشعوب نفسها بالرغم من تطور التكنولوجيا وتبدل العلاقات الدولية وسقوط الجدران الحديدية والأنظمة التوتاليتارية وانفتاح الأسواق العالمية وبالرغم من الثراء الذي طال أغلب دول المنطقة من جراء فورة النفط. وبدل من أن يعي الحكام وقادة الراي في دول المنطقة أهمية بناء الأنسان المنفتح والمتعاون بقي التشديد على الحقد حتى وقعت هذه الدول في دوامته لتتآكل من الداخل ويصبح هذا الحقد الذي أعتقد البعض بأنه الدواء الناجع للإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية هو المشكلة الأساسية التي تقضي على الأحلام وعلى العلاقات الاجتماعية وعلى بنية هذه الدول.

 

في لبنان الذي كان بدا وكأنه بلد التعايش بين الحضارات المختلفة صب زيت ما سمي بالثورة الفلسطينية على نار الخلافات الداخلية لينفجر حروبا طائفية مزقت الوطن وشتت بنيه ولم نعي بعد بأننا قد صنعنا بأيدينا مئات المآسي التي فاقت بمرات مأساة الفلسطينيين. ولم يفهم القادة مقدار الخسائر التي ولدت في حروب لبنان واعتقد البعض بأنها الباب لمزيد من التحكم والسيطرة فإذا بالنار نفسها تدخل كل البيوت وتحرق كل الهشيم الذي تألفت منه هذه المجتمعات. وصارت الحروب تتنقل في كل أنحاء المنطقة ولم تسلم منها بلاد فقيرة أو غنية على السواء وإذا بالنار تشتعل من الصومال الأفريقي والسودان مرورا باليمن "السعيد" لتصل دول الجليج الغنية وتهز مجتمعاتها وتنتقل إلى العراق قلب العروبة النابض فيتخلخل بنفس نار الحقد المتوهج ويحط في بلاد الشام التي اخترع أبناؤها وأجج حكامها سياسات الحقد هذه.

 

اليوم يقف لبنان المجرّح والمعذب على أبواب حرب المذاهب التي تذكرنا بأيام المماليك وفتاوى ابن تيمية وغيره بينما لا يزال من يعتقد بأنه يمسك الأرض متشبثا بالسلاح متباهيا بالسلطة مبتعدا عن الواقع متناسيا بأن للظلم والقهر حدودا لا بد أن تضعها السماء إن لم يبادر أهل الأرض لوضع مثلها، هذه الحرب التي عرفناها سابقا ونرى أشكالا منها كل يوم يجب أن يتجنبها العقلاء ويسعى لمنعها من يدعي بأنه يعرف الله.

 

فالحقد الذي رعته الأنظمة المتتالية في دول الجيران ارتد على الداخل وبدأ ينهش من جسد الأمة فهل من يفقه بأن المزيد من الحقد يزيد من الدمار؟ وهل سنرى قبل فوات الأوان من ينادي بوقف العنف والاعتراف بكل الآخرين وحقهم بالحياة الكريمة والعمل على التعاون في سبيل الخير الذي يمكن أن يطال الكل بدل ذلك الشر الذي يطالهم اليوم بدون أي شك؟

 

سياسات الحقد هذه ليست فقط بين المذاهب والطوائف ونحن نراها في البيت الواحد حيث يبنون انتماءاتهم على الحقد ففي الجانب المسيحي مثلا أغلب من يسير في خطى الجنرال عون اليوم هو ممن يحقد على الدكتور جعجع والعكس صحيح وهذا ليس حرية رأي أو ممارسة للديمقراطية لأن الديمقراطية الحقيقية هي تأييد لطروحات سياسية "مرحلية" نقتنع بها فنتبناها وقد يعجبنا أو لا الشخص الذي يطرحها والقضية ليست قضية تزلم لأشخاص أو مخاصمة لآخرين من هنا فإن الوضع السياسي غير طبيعي ولا يدعو إلى التفاؤل بتغيير إيجابي من هذه الجهة أو تلك وما نقوله في الحركات الدينية "الأصولية" شيعية كانت أم سنية يصح أيضا في التجمعات السياسية التي تدعي "العلمانية".

 

دعوتنا إلى اللبنانيين جميعا أن يبصروا ما آلت إليه الأمور ويستوعبوا بأن الحقد لن يبني لهم ولا لغيرهم بيوتا لا تحرقها النيران وكما كانت الحرب التي لم تنته بعد الشرارة لحروب "الأخوة" في كافة أرجاء المنطقة فلتكن محاسبتهم الذاتية بداية لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها وليرجع كل واحد إلى نفسه فيعرف بأن لا رابح من كل لعبة الحقد هذه.

  

دعوتنا إلى الأهل في الجنوب بعد أن رأى الكل وللمرة الخامسة من على شاشات التلفزة كيف يعامل من صمد في أرضه يوم هربت الدولة ومعها الكثير ممن يدعون البطولة اليوم، وكيف يمنع عليهم حتى تسجيل أبنائهم ويحرمون من حقوقهم المدنية في وقت يمارس المتسلطون قصر نظر كبير باشتراكهم في حروب خارج الحدود لا ناقة لهم فيها ولا جمل، دعوتنا أن نبدأ بفحص ضمير إن كان هناك من ضمير ونتلوا فعل ندامة حقيقي عن كل الحقد الذي نشرنا ولنمزق أحكام الظلم وندعو اخوتنا الذين اتهمناهم بالخيانة إلى المصالحة والمسامحة ولنتعاون على طي صفحات العنف التي انطلقت من هذا الجنوب وها هي تشعل المنطقة بأسرها عل هذه البادرة تكون مثالا يحتذى فتنطلق موجة جديدة من الواقعية المغلفة بالتسامح والتعاون لتطفيء نيران الحقد هذه وتخنق الشر الذي سيدمرنا جميعا.

 

الدول الكبرى تعرف أن تحل مشاكلها وعندما يحين الوقت ستجلس إيران وتركيا والدول الكبرى ومن تبقى من دول المنطقة على طاولة واحدة وتتقاسم المصالح ولكن الشرخ العميق الذي يحدثه التعنت والتجبر واللجوء إلى العنف وتحكيم السلاح في البيت الواحد لا يزول بسهولة وستبقى آثاره لسنين طويلة وينعكس على الحالة السياسية للبلد وسيصبح من الصعب التفاهم على الحكم ولو زادت الثروات وعم السلم المناطق المجاورة. فهل نعي إلى أين نحن سائرون وهل نملك الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطأ والعودة عنه؟

 

تورونتو - كندا 

19 آذار 2013