هل صحيح بأن السيد مرتاح لقوته وقراراته؟

أم أنه ينقاد لردات فعل ستنعكس سلبا عليه؟

بقلم/الكولونيل شربل بركات

 

المراقب لحركة السيد نصرالله في الأشهر الأخيرة يجد بأنه قد خرج عن عادته في الابتعاد عن الأضواء واستعاد دور الخطيب المفوه الذي يخترع المناسبات ليثبت بأنه جدير باعتلاء المنبر وقادر على تحريك المشاعر سلبا أو إيجابا لا فرق.

 

السيد نصر الله كان يعتبر، بنظر بعض السياسيين والصحافيين والمتتبعين للشأن السياسي اللبناني، متزنا نوعا ما فيما يقول، وهو، حتى يوم أخطأ الحسابات في سنة 2006 اعترف صراحة بأنه "لم يكن يعلم" وهذا أعطاء مصداقية من جهة الصراحة ولو أنه أعتبر نقطة سلبية في مجال القيادة والقرار الصائب. ولكن السيد نصر الله عوّدنا على أنه يفرض برنامجه على الآخرين كما يفرض رأيه من خلال خطاباته النارية؛ فهو يستند إلى ظهر قوي ودولة كبرى من دول المنطقة يحسب لها حساب، إن من ناحية القدرات المالية، لأنها دولة نفطية كبرى، أو من ناحية الطموحات السياسية والتخطيط. وهذه الدولة تعتبر جماعته في لبنان ورقة مهمة للمناورة حول مصالحها في الشرق الأوسط والعالم، ومن هنا أهمية الدور الذي يلعبه السيد وأهمية الخطاب الذي يوجهه.

 

التوتر البادي في ظهورات السيد الأخيرة والتسرع في التهديد والوعيد يعكسان ربما تصدع داخلي في صورة الأمبراطورية الجديدة ناتج عن خوف من المرحلة القادمة، ما يدفعها إلى قرار من لا يعرف ما يخبأ له فيسارع إلى الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع.

 

صحيح أن الإيرانيين بدأوا بالشعور بحلقة ما تغلق عليهم من قبل العالم، وهم يريدون المواجهة لا التراجع، ولذا فقد أعطي الأمر أولا للبدء بالتصعيد في لبنان، ومن ثم سينتقل هذا بالتأكيد إلى الحدود السعودية اليمنية، وربما لاحقا بعض القلاقل والعمليات التصعيدية في دول الجوار الأخرى، وذلك كإشارات ما قبل المواجهة الكبرى. من هنا رأينا السيد حسن يخرج عن عادته ويتحدّى الكل ويهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولكن هل كل هذا يصب في مصلحة اللبنانيين من جماعته؟ وأين سيقف الرئيس بري وغيره ممن ليس لهم دور إيراني وسوف يصبح دورهم اللبناني غير ذي شأن في حالة تردي موقف السلطة التي يستمدون منها التأثير على الرعية والأتباع؟

 

السيد ومن خلال خطاباته يريد المواجهة ولكنه لا يعرف مع من ستكون، فهو لم يجرؤ أن يتحدّى إسرائيل التي سبقته إلى التهديد، وقد حاول تحدّي المجتمع الدولي من خلال الضغط على القوات الدولية في الجنوب ولكنه فشل في عملية التصعيد، لا بل لاقى هجوما مضادا عليه من قبل اللبنانيين أولا، ومن قبل أهل البيت في قرى الجنوب الذين شعروا بأن هذه التحركات ليست في مصلحتهم، ومن ثم من قبل المجتمع الدولي الذي لم يظهر عن ضعف موقف، ولذا فقد تحرّك باتجاه المحكمة الدولية ومن دون مبرر يذكر.

 

المطلوب من السيد البدء بفتح مشكل لكي يصار إلى التحدث مع الإيرانيين والسوريين لحلحلة الأمور، ولذا فهو يكرر التهديد ولا يقف عند حد بل يقول: "البقية تتبع"، أي أنه يوعدنا بأنه لن يوقف تهجمه لأنه يفتش عن مشكل. وهذا بالضبط ما يقوم به بعض أزلام سوريا من أمثال الوهاب والقنديل وغيرهم، إذ أن السوريين يحاولون اللعب بعدة أوراق  في نفس الوقت؛ فيمثلون بأنهم راغبون في التقارب مع السعودية والغرب، وبالطبع تركيا، لا بل يحاولون تثبيت طبيعية العلاقة بين لبنان وسوريا، وفي نفس الوقت يحرّكون جماعتهم في لبنان للدفع نحو خلق المشكل. من هنا الشعور السائد هذه المرة بين كل من علّق أو كتب عن خطاب السيد ومؤتمره الصحفي بأنه يبدو محشورا ويحاول الهرب إلى الأمام.

 

السيد لم يكتف بالتهجم على القوات الدولية والمحكمة الدولية وقوى الرابع عشر من آذار، لقد هدد بفتح حرب أهلية طالما قال بأنه ضدها وأن سلاحه لا يستعمل في الداخل مهما كانت الظروف ( بالرغم من أنه استعمله في"اليوم المجيد" 7 أيار)، لا بل حاول حشر حليفه المسيحي الجنرال عون بتسريبه قصة مفبركة على لسان عون، لم يجرؤ الأخير على إنكارها كليا، تدعو إلى فتح مشكل طائفي وتحويل الصراع إلى صراع، ليس فقط مذهبي، بل ديني أيضا وبوقاحة غير خافية على أحد، وقد جعلت هذه التسريبات عون في موقف لا يحسد عليه، فكيف له أن يبرر طلبه من حزب الله مهاجمة "البيئة الحاضنة للعملاء" كما يسميها نصر الله، ويعني بها المناطق المسيحية، وهي المناطق التي جعلت من عون زعيما وطنيا، فهل يريد نصر الله بذلك حشر عون ليقف في صفه بعد أن يجرده من أي عطف مسيحي عليه؟ من هنا الشعور بأنه محشور للغاية هو وأسياده ولم يعد له من مخرج سوى استعمال السلاح وليس فقط التهديد به.

 

بعد كل هذا الكلام نحزن مرة أخرى على مصير الأهل الذين يعيشون في ظل هكذا زعماء مأجورين يعرفون جيدا بأن الوقت ليس في مصلحتهم ولا مصلحة حتى جماعتهم الضيقة التي تعتاش على "المال الحلال"، ولكنهم يقودونهم إلى الهلاك المحقق. فهل سينتفض "شيعة الحق" بوجه الطاغية الذي يقودهم إلى الموت؟ وكما قام أهالي بلدة بليدا الجنوبية بقتل الزعيم المحلي من آل فرحات الذي كان يستغلهم ويذلهم "بسيوف الببير"، هل سيقوم الجنوبيون بطرد نصرالله وجماعته هذه المرة "بميابر الدخان"؟ أم أن الكرامة قد ماتت والحقد الذي زرع فيهم على الآخرين جعلهم ينحشرون في قمقم مغلق يخافون من الاقدام على أية محاولة للخروج منه خوفا من الأسواء؟

 

الأيام القادمة سوف تفضح أكثر فأكثر خطط أسياد نصر الله ومشاريعهم المحضرة لاخوتنا شيعة لبنان، فهل بقي من أمل في الوعي الجماعي لمن تجذّر في أرض الجنوب بالرغم من القلة ومنذ أكثر من 500 سنة على طرده من قبل المماليك؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه وسيخسر لبنان الكثير من أهله ومقتنياتهم قبل أن ينتهي مسلسل العنف الذي أنتجه حزب الله والذي طوّره السيد ومن سبقه في واجهة قيادة فرق الحرس الثوري الإيراني في لبنان؟  

 

لقد استعمل حزب الله أهل الجنوب عدة مرات متاريس وأكياس رمل لتنفيذ أوامر أسياده وأقنع البعض منهم بتغيير مفاهيمهم وأخلاقياتهم حتى بتنا تفتقد للقواسم المشتركة بين هؤلاء وبقية اللبنانيين في كثير من الأحيان، فهل سيحاكم هؤلاء على هذا الكم من الضرر الذي أحدثوه في الأجيال القادمة؟ ومن سيعيد بناء الشخصية اللبنانية التي تطورت خلال مئات من السنين وبنيت على التسامح والجيرة الحسنة وقبول الآخر والتعاون من أجل الخير العام لا من أجل العنف والقتل والكراهية؟ ومن سيدفع مقابل كل هذا الضرر بعد أن يسقط حزب الله ودويلته في صراع الكبار ويعودون إلى أحجامهم الطبيعية؟

 

صحيح إن العالم يحكمه بشر ولكن الدول تتصرّف بطول بال ولا تلحق أحيانا بالأحداث المتسارعة التي يدفعها بعض الشذاذ، ولكن في النهاية "لا يصح إلا الصحيح" ولا بد للأمور أن تستقر بالشكل الطبيعي، ولكن الثمن الذي يدفعه شعب لبنان منذ أكثر من أربعة عقود لا يمكن لأي شعب آخر أن يتحمله. فهل إن المستقبل الزاهر بدأت معالمه ترتسم؟ وهل إن العنف الذي اجتاح لبنان سيذهب هذه المرة إلى غير رجعة؟ وبأي ثمن؟

 

الكولونيل شربل بركات

تورونتو 25 – تموز - 2010