الجديد في الموضوع اللبناني والعلاقات مع نظام دمشق

بقلم/ الكولونيل شربل بركات

كلما بدأ اللبنانيون بالتأمل بالفجر الجديد الآتي ليخلصهم من بؤرة العنف التي غرقوا فيها منذ أكثر من ثلاثين سنة يأتي من يعمل وبكل جهد لإعادتهم إلى اليأس ودفعهم على القنوط وربما التفكير بالرحيل.

هذه التناقضات تملأ التاريخ القريب الذي بدت فيه الأحداث بعنفها المتزايد وكأنها طريق مسدود أمام آمال اللبنانيين بالخلاص. فيوم سيطر عرفات على الأرض ومزّق وحدة الجيش والحكم جاءت سوريا تعرض نفسها كمنقذ فصدق اللبنانيون الأمر وتأملوا بالخير خاصة وأن العرب أجمعوا على قرار ببقاء لبنان وأرسلوا الردع. ثم كان حدث السلم الذي طرحه السادات والرد الذي تبنته سوريا والعراق في ما سمي جبهة الصمود والتصدي ليعود لبنان ساحة الصراع البديلة لسوريا فييأس اللبنانيون لزمن ولكن عملية الليطاني الإسرائيلية ضد جماعة عرفات وقرار مجلس الأمن الدولي بإرسال قوات اليونيفيل أعادا الأمل مرة جديدة بالاستقرار والانتهاء من حالة الساحة المفتوحة. وتظهر من جديد مفاعيل الضغط السوري الذي يرفض إنهاء هذا الوضع ويمنع على الحكم اتخاذ القرار بنشر الجيش وإعادة المسلحين الفلسطينيين إلى مخيماتهم، وهكذا تنشأ حالة جديدة من التململ تنتهي بحرب المئة يوم في الأشرفية التي تقسم البلاد بين مناطق سورية ومناطق محررة.

ولا نريد أن نعيد مسلسل الأحداث من زحلة إلى الدخول الإسرائيلي حتى بيروت والقوات المتعددة الجنسيات ومن ثم حروب الجبل وبيروت وطرابلس وحرب العلم وحروب المخيمات وحروب السيارات المفخخة وعمليات الانتحار وحرب الرهائن والاتفاق الثلاثي ثم أزمة الانتخابات الرئاسية التي تأتي بالوزارة العسكرية فحرب التحرير وحرب الإلغاء التي ألغت مفاعيل المنطقة المحررة لتعيد الكل إلى التسلط السوري من جديد.

وييأس اللبنانيون فيقف التململ ويسيطر الأمر الواقع مع كل نتائجه وإفرازاته فالعالم قد سلم الأمر لسوريا وعلى اللبنانيين الخضوع. ولكن مفاعيل سقوط لبنان ومن ثم سقوط الاتحاد السوفياتي تطلق المارد النائم منذ سقوط العثمانيين وتضرب أيدي الراديكاليين الإرهابيين من المتأسلمين الجدد العالم الحر فيشعر بالخطر وبالابتزاز الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية وعدم فعاليتها، وتبدأ عملية المحاسبة والمراجعة فينبت أمل جديد للبنانيين ويكبر حلم عودة الاستقلال والسيادة.

السوريون الذين لعبوا بكل الأوراق بحرية طوال هذه السنوات الثلاثين لم يفهموا أن العالم جاد هذه المرة لأن أمنه في عقر داره صار مستهدفا وهو لن يفرّط فيه ولا بد له من أن يجد الوسيلة لذلك. وبدل أن يفاوضوا على الدخول باللعبة الجديدة ويقبلوا بتطوير تعاملهم مع اللبنانيين ليصبح تعاونا، ومن ثم مزيدا من التوازن في العلاقات، ويتطور النظام في دمشق مع قدوم رئيس تربى وتعلم في أرقى الدول الديمقراطية في العالم، كان ردهم بالأسلوب الذي عهدوه وهو أسلوب القوة والعنف والهروب من الديمقراطية نحو الاستبداد. وكان خيارهم على تتالي القرارات التي كان أولها قرار محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي والذي أعيدت تسميته لتشمل سيادة لبنان، ومن ثم القرار الدولي 1559 الذي طلب عدم التجديد للرئيس لحود والاستعداد للانسحاب، بأن أمروا بقتل الرئيس الحريري والتخلص من تأثيره الدولي.

اختار السوريون إذا المواجهة بدل الانحناء أمام العاصفة فخسروا رصيدهم العالمي في سياسة التوازنات والتعهدات التي مارسوها بمهنية عالية زمن الرئيس الأسد، وها هم اليوم يندفعون باتجاه المحظور يوما بعد يوم، وكأن القدر يعاقبهم بنفس السلاح الذي حاربوا فيه الغير بالواسطة زمنا طويلا وإذا بنظامهم يسير بخطى حثيثة وبدون شك نحو الانتحار.

بدل أن يقطع السوريون كل علاقة شاذة مع لبنان يوم انسحب جيشهم منه ويبدأوا بترتيب البيت الداخلي السوري، بانتظار قيامة بلد جار يمكن أن يساندهم في خبراته بموضوع التعددية والنظم الديمقراطية الممكن إتباعها في بلد مشابه، ولو اختلفت النسب بين الأقليات والأكثريات عندهم، قاموا بدفع المخطط القديم والاستمرار بالقتال حتى الرمق الأخير. فبدأ مسلسل التفجيرات، ثم الاغتيالات، ثم دفعوا بحلفائهم إلى التخريب وإعادة الفوضى، فكانت الحرب العبثية لحزب الله التي أرهقت لبنان، ولكن نتائجها حصنته لأن رد العالم لم يكن متساهلا كالعادة، ولولا خوف جماعة الحكم لكانت القرارات الدولية أقوى بكثير وذات فعالية أكبر مما هي الآن.

إعتقد السوريون وحلفاؤهم بأن حرب تموز كانت ناجحة لأنها أدت إلى تعطيل الاستقرار وتوتير الأجواء في لبنان وإعادة حزب الله إلى الواجهة الإعلامية. من هنا كان عليهم استغلال هذا النصر بدفعه، وتحت غطاء المعارضة، إلى إسقاط الحكومة باحتلال القصر الحكومي ومجلس النواب، ولكنهم انتهوا باحتلال ساحة رياض الصلح أب الاستقلال ونصبوا مضاربهم فيها ولا احد يعلم إلى متى سيبقون هناك.

يقول البعض بأن ضغط اللبنانيين من أجل المحكمة الدولية ومن ثم طلب رأس النظام السوري هو ما يجعل هذا النظام يقاتل حتى الموت ومن هنا كان يجب أن يخفف هذا الضغط عله يجدي نفعا، فيكون استشهاد الرئيس الحريري الذي أدى إلى تنفيذ الانسحاب السوري قد ساهم أيضا في زيادة الاستقرار في المنطقة بالعبرة التي سيأخذها هذا النظام والطريقة الجديدة التي سيتعامل بها مع الجيران. ولكن الفرصة التي أعطيت لهذا النظام للدخول في عهد جديد لم تعط لأحد ما جعله يعتقد بأن العالم غير قادر على مواجهته وبأنه بامتلاكه سلاح الإرهاب سيرضخ الجميع له في النهاية وهو من سيملي شروطه، ومن هنا تأزم الوضع في لبنان وخوف الناس من جديد بان هذا النظام لن يكف عن دفع الأمور نحو التصعيد ولن ينفك عن التخريب قبل أن يقضي على أحلام اللبنانيين بالحرية والاستقلال.

لكن العالم الحر وبخطوات ثابتة ومتتالية يزيد الطوق حول دمشق شيئا فشيئا، وهو ما لا يلحظه جميع اللبنانيين ولكنهم سوف يشعرون به قريبا جدا. فكما تحاول دمشق يوما بعد يوم إثباط عزائم اللبنانيين ودفعهم إلى اليأس من الوضع، يحاول العالم الحر إعطاءهم إشارات عن جدية الدعم لحريتهم واستقلالهم، وما قرار الرئيس بوش الأخير بمنع دخول المسؤولين السوريين وكل حلفائهم ومن يتعاون معهم إلى الأراضي الأمريكية، إلا واحدة من هذه الإشارات. وقد كان تقرير الأمين العالم للأمم المتحدة الأخير حول لبنان جعل من موضوع الحدود اللبنانية السورية وضبطها شأن دولي ما سوف يسهم مستقبلا بدعم لبنان وتقوية الحكم فيه بشكل نهائي ومهما تغير حكم دمشق وتبدل، لأن التدخل في الشؤون اللبنانية سيصبح أصعب بكثير في حال ضبطت الحدود. ومن المؤكد أن تقوم دمشق بخطوات تصعيدية عندها لإغلاق مزيدا من معابر الحدود وربما بشكل نهائي ولذا فإن البديل لهذه أصبح عملا جديا ربما قيد التنفيذ ولم يعد فقط جزءا من الدراسات والخطط الممكنة.

وقد رأينا بوضوح محاولة التخريب التي قامت بها دمشق في نهر البارد، وكان الرد عنيفا ولو مكلفا، إلا أنه علّم الكل بأن هناك دولة واحدة ولم يعد من المسموح إقامة دويلات ولا جذر أمنية. ولا يخرج موضوع الصواريخ التي أطلقت على إسرائيل من الجنوب والسيارة التي فجرت بعناصر الأمم المتحدة أخيرا من إطار هذه الضغوط والرسائل المتبادلة، ولكن الإرادة الدولية تبدو مصممة وقادرة وعلى حلفاء سوريا اختيار مواقفهم قبل فوات الأوان.

الأوراق السورية تظهر الواحدة تلو الأخرى وأخرها طبعا ما تحضره في موضوع الانتخابات الرئاسية، ولكن حتى في هذه لن تنجح سوريا ولو قامت بالضغط على حليفها الأساسي الرئيس لحود لتشكيل حكومة قبل إنهاء عهده وجعل لبنان ينقسم بين حكومتين لأن هذه التجربة سبق أن قامت مع العماد عون وأفشلها اتفاق الطائف، ونحن نعتقد أن الكلام عنها هو ما سينفس مفاعيلها ويجعلها مائتة قبل أن تولد، ولكننا نأسف على الذين سوف يفقدون حتى تاريخهم عندما سيقبلون بالانضمام إلى هكذا حكومة إذا ما تجرأ الرئيس لحود على تشكيلها.

من هنا نقول للبنانيين بأن الأيام القادمة ولو بدت قاتمة إلا أنها سوف تأتي بالخير والسلام والاستقرار إلى هذا البلد المعذب الذي آن له أن يرتاح من حروب الآخرين على أرضه وبأجساد أبنائه وأرواحهم.

كندا/تورونتو

تموز 2/2007