أم خليل

بقلم/الكولونيل شربل بركات

رحلت أم خليل بصمت كما عاشت أكثر حياتها...

 

رحلت وهي في غربة عن بلدة أحبتها وبذلت فداءها فلذة الكبد...

 

رحلت متألمة ومتأملة أن تعود إلى الديار لتغمر التراب أو يغمرها، كما كل واحد من أولئك الغيارى الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل أن تبقى عين إبل مرفوعة الجبين مصانة الكرامة، وأن يبقى لبنان وطن الحرية ومثال الانفتاح والتعاون.

 

لم تترك أم خليل عين إبل خوفا كما قالوا، ولم يلق أولادها سلاحهم رهبة ممن هدد بالدخول إلى المخادع لأنهم سبق وقابلوه في المواقع فعرفوه عن قرب وأذاقوه في أكثر من مرة طعم سلاحهم. ولكنهم فضلوا المنفى على الاستمرار في إهراق دماء اللبنانيين من أية فئة كانوا ولو غرر بهم.

 

هم عرفوا، وكل الشرفاء من أبناء الجنوب الأبطال، بأن الحاقدين المأجورين الذين يدفعون بأبناء الوطن للموت سيستمرون ما داموا مرتزقة في خدمة الغرباء، وسيخلقون الأعذار الواهية لفرض سلطتهم وهيمنتهم وتخريب لبنان كل لبنان بدأ من جنوبه، ففضلوا الانسحاب بدون قتال لكي لا يسجل لهم بأنهم قاتلوا الوطن ولو أن من أجلس على كراسيه وأعطي مناصبه لا يهتم به ولا بأبنائه ولا يعرف من مصلحته سوى تنفيذ أوامر "الشقيق" المحتل الذي يفصّل الأمور على قياسه.

 

رحلت أم خليل وفي جعبتها كلام كثير عن الخونة الحقيقيين وعن الشرفاء أبناء الأرض. رحلت وفي قلبها غصة على المصير المظلم ووجع على شعب أعماه الخوف وأقعده الإرهاب فكمّ أفواهه وأغلق آذانه وأعمى عيونه...

 

ولكنها لم تطق الفراق ولم تقدر على الغربة فعادت، بنعش صحيح، ولكن لتنزرع في تراب بلدتها التي اشتاقت لها وبقرب ولدها الشهيد الذي بذل النفس عن أحبائه...

ويل للجبناء الذين ارتعدوا من جسد أم خليل المائت. ويل للمرتزقة الذين لا يعرفون الأخلاق ولا يحترمون حتى رهبة الموت...

 

هل استقبلتك زهور الربيع في تلال شرتا ورياحين الشوح والقندول في سفوح القدام وبسبسة؟

 

هل حمل نعشك رفاق خليل الصامتين كما رفاق "مدلج" في جبال الصوان؟ وهل يخاف "فاتك المتسلط" جسدك المائت؟ أم أنه يعرف أن حبة الحنطة التي تمت في الأرض سوف تعطي ثمارا كثيرة؟..

 

وداعا يا أم خليل فقد كنت وديعة خفيفة الظل، لم تطلبي الفخر ولا التشاوف ولكنك علمتي أجيالا ستكبر بأن العزة موقف لا يساوم عليه، والعنفوان حالة لا تستجدى بالبكاء أو تشرى بالمال، وأن الأوطان لا يحميها إلا أبناءها المنغرسين في ترابها، العاشقين لدروبها وحناياها، والذين يردهم الحنين مهما غربوا عنها. وداعا يا أم الشهيد، ولتقرع أجراس الحزن في تلال الجنوب الحزين حيث الوجع دائم بقدر المحبة المستمرة، وحيث الألم يزهر براعم بطولة متجددة وأذرع بناء متواصلة...

 

وإلى أن يشاء الله سوف تبقى عين إبل وأخواتها ورودا تفوح بالعطر بالرغم من كل الأشواك، وتتكاثر ألوانها بالرغم من كل العواصف، وليعرف الكل بأن الذل ليس من شيمنا وأننا نقبل بالتسامح ولكننا لا ننسى القهر... 

 

فعذرك أم خليل إن كنا لم نقدر أن نعطيك الاحترام اللائق ولم نستقبلك كما تستحقين، فنحن منشغلين في هذه الأيام بالتقاتل على مناصب واهية، في زمن الانكسارات المتكررة، وتغييب الرؤية الشاملة، والتلذذ بالصراعات الضيقة التي لا تقدم ولا تؤخر ولكنها قد تعجب المتسلطين فيظهرون بعض الرضى ويحبذون المزيد من التشرزم.

 

كندا/تورنتو في 16 نيسان/2010

 

* أم خليل هي السيدة حنة جلاد ابنة بلدة عين بل الجنوبية، وأم الشهيد خليل جلاد وكانت توفيت في إسرائيل السبت الماضي عن عمر 70 سنة