الجنوبيون والدولة

بقلم/الكولونيل شربل بركات

 

يتداول البعض من حين لآخر موضوع الجنوبيين وخاصة منهم الذين فضلوا الانتقال إلى إسرائيل يوم خرجت من لبنان بدون أي اتفاق مع سلطة قادرة على تأمين الأمن والنظام في المنطقة ولا هي جربت حتى أن تعرض نفسها كصاحب الحق في هذه المهمة.

 

الجنوبيون الذين تركوا المعول في الحقل وحملوا البندقية يوم هربت الدولة وأجهزتها أمام عصابات عرفات وبناديق قحطان ويوم تعرضت الكرامة للمساءلة، لم يكونوا يوما عملاء لأحد ولا هم تناسوا الوطن بل حملوه ولا يزالون حيثما حلوا زخرا وقبلة لا يستبدلان بكنوز الأرض.

 

الوطن أيها الأخوة لايقدر بثمن ولو أن من يسكن بجوار العاصمة اعتاد على بيع كل شيء فإذا به يبيع عرفات البيت بما فيه، ويبيع الأسد المستأسد على قومه كل الدور وكل الحق في وطن صنعته دماء الأجداد وسواعدهم يوم كانت المنطقة كلها ترزح تحت حكم السلاطين وتقبل بالفتات المتروك تحت موائدهم، ويبيع القذافي المفتش على دور له في المنطقة الأهل والجيران، ويبيع بعدهم ما تبقى من حضارة وإرث لإيران وعملائها العائدين من غياهب العصور، وربما يبيع غدا لتركيا أو غيرها أمورا أخر. هذا الوطن عينه كان بالنسبة للجنوبيين مختلفا جدا، فهو عزيز بكل ترابه، غني بكل أهله، هو الثروة والملاذ، والفخر والعزة، منه نهل الأبطال العنفوان والقوة، ومن أجل ترابه دفع الأحباء حياتهم بدون منّة، وهم حلفوا ألا يتركوه مهما قست الأحوال.

 

الجنوبيون ومن معقلهم راهنوا على قيامة الوطن فإذا بالوطن ينهار تحت أقدام الغزاة ومطامع تجار المناصب والسياسيين، هم أبقوا الارتباط بلبنان الذي عرفوه سيدا حرا مستقلا فإذا بلبنان يستسلم للمارقين ويلتزم مشاريعهم.

 

لم ينسى الجنوبيون مرة أن الأطراف هي من يدافع عن القلب ودورها أن تحميه من كل ضيم ولكن المرض في جسم الوطن كان أكبر من قدرته على الصمود فماذا تقدر الأطراف أن تفعل في جسم نخره المرض ولو بقيت هي سليمة.

 

يوم قررت إسرائيل الخروج من لبنان وكان لبنان لا يزال تحت الاحتلال تاركا الحبل على غاربه لعملاء إيران وسوريا كان على الجنوبيين الاختيار بين الصمود في مواقعهم مع كل ما يعنيه ذلك من تحويل الحرب إلى حرب أهلية فعلية أو الخضوع لسلطة العملاء والقبول بالأمر الواقع، ولم يكن كلا الأمرين خيارا لهم فقرروا أن يعلّموا أولادهم بأن الوطن أغلى من الأفراد وبأن التضحيات في سبيله لا تقف عند حدود معينة فقرروا الرحيل عن التراب الذي أحبوا والتلال التي رووا بالدماء عل الوطن يقوم من مرضه ويستعيد صحته.

 

اليوم تطرح مشاريع من أجل الجنوبيين وحل مشكلتهم فقد تضمن خطاب قسم رئيس البلاد كلاما عن وسع صدر الدولة تبيّن بعدها أنه كلام اعلامي لا يستند على رغبة حقيقية في مقاربة الموضوع لأن الرئيس نفسه لا يملك حق الخيار، كما هو باد، وهو محكوم بتوازنات كي لا نقول اتفاقات، فقد نسي قائد عملياته الذي اغتيل في طريقه للوزارة وهو الذي كان مرشحا لخلافته في قيادة الجيش، وتناسى شهداء المؤسسة العسكرية الذين سقطوا تحت امرته في معارك نهر البارد وواضعي الخطوط الحمر لهم، وهو تغاضى عن قاتلي الضابط الطيار وسمح باطلاق سراح قاتله (؟). أما الجنرال الذي حمل مدة قضية الجنوبيين وتباهى بالدفاع عنها، فقد قيّده اتفاق "مار مخايل" ليكتفي فقط بالتذكير من حين لآخر بحل الأمر الواقع الذي يفرضه حزب الله. أما طرح النائب الجميل الأخير فهو يستحق الالتفات ولو أنه لم يعط الجنوبيين حقهم بالقدر الكافي، فهؤلاء لم يتفاهموا مع إسرائيل بدون موافقة زعامة لبنان يومها، وقد يكون ثمن صمود المناطق الشرقية، يوم قرر العالم كله منع وصول السلاح إلى المسيحيين بينما تركه يتدفق بدون قيد مع أفواج المقاتلين والمرتزقة وفيالق الجنود للطرف الآخر، هو هذا الموقف لأبناء المنطقة الحدودية الذي ضبط التوازن الأقليمي وغيّر المعادلات. 

 

ما يغيب عن الأذهان في مشكلة الجنوبيين هو أنهم شكلوا دوما جزءا من لبنان لا غنى عنه وهم في قلب القضية اللبنانية وليسوا على هامشها وكل حل لا يأخذ بعين الاعتبار أبناء هذه المنطقة وتضحياتهم يبقى ناقصا وهذا بالضبط ما حدث مع اتفاق الطائف. أما أن يقال بأن هناك من ربح الحرب وهناك من خسرها ويجب القبول بالأمر الواقع فهذه هي المذلة بعينها وهي لب المشكلة المستمرة فكيف يقبل الشيعة الذين يقودهم حزب الله اليوم بحل يقصى به جزء من أبناء المنطقة لأن من دعمهم انسحب من الساحة بطريقة أو بأخرى وماذا سيحل بهم هم يوم ينسحب السوري والإيراني عن الساحة إذا؟ 

 

المشكلة اللبنانية كل لا يتجزأ وهي لا تحل باتهام الآخرين، وأهين الاتهامات تلك التي تتعلق باسرائيل، فكل الفئات قد تحالفت مع ما يمكن تسميته أعداء الوطن في ظروف معينة، والحروب الداخلية والصراعات التي كلفت المواطنين دماء وممتلكات لا تحصى ليست مستوردة إنها نتاج خلافات بالمواقف والخيارات، ولذا فعلينا أن نجد الحلول لمشكلات لبنان الأساسية ليس بفرض الرأي وزيادة الحقد والتعبئة بل بجمع الكل والاعتراف بتضحياتهم وشهدائهم وحقهم بالحياة الحرة الكريمة عندها تحل المشاكل وينتظم البلد. وكل محاولات التلطي خلف ظروف وشعارات والقاء اللوم على الآخرين هي مشاريع صراع جديدة.

 

اليوم ومع التغييرات الحاصلة في مواقع وبلدان عدة من المنطقة على اللبنانيين إعادة حساباتهم وتمتين وحدتهم الداخلية بنزع حالة التضخم الغير طبيعية عن فئات منهم والجلوس على طاولة التفاوض الحقيقي حول كل الأمور بكل صراحة وبدون تكاذب ويجب أن يتمثل أبناء الجنوب في طاولة الحوار هذه ويقولوا كلمتهم بكل صراحة فتصير المصالحة بين اللبنانيين جميعا اساسا لبناء الدولة المستقرة، فقد تصارع الأوروبيون خلال مئات السنين وها هم اليوم يعودون إلى التوحد بالاعتراف بحق كل مجموعاتهم بالحياة والاستقرار والتقدم، وها هي تركيا التي خرجت من المنطقة مكسورة بعد احتلال دام 400 سنة تحاول العودة للشراكة مع دولها وتبادل الخبرات، وكذلك إيران التي تحاول لعب دور أساسي فيها. ولكن هل نقبل بتدخل قوى ودول غريبة لنا معها تاريخ من الصراع ولا نقبل أن نتصارح مع شركائنا بالوطن؟

 

يجب أن يأخذ كل منا حجمه الحقيقي ويبدأ بالتساؤل حول المستقبل والمصير فلم تصل شجرة إلى ربها كما يقول المثل العامي ولكل ظالم يوم، فهلا ارتدعنا وتقبّلنا بعضنا ليعود إلى الجنوب استقراره وإلى لبنان ازدهاره؟

 

يبقى أن شجاعة النائب الجميل في طرح العفو للجنوبيين في ظل حالة التورم التي يعيشها حزب الله مشكورة ولو كانت غير جديدة، فقد كان صدر عفو عام عن كل ما حصل أثناء الأحداث في لبنان بعد الطائف وكان يجب أن يشمل هذا العفو الجنوبيين كجزء من اللبنانيين، ولكن ولغاية في نفس المحتل السوري يومها، تبينت في تضخيمه لدور حزب الله لكي يصبح مصدر القلق الجديد للبنان بعد زوال حالة عرفات الشاذة، لم يتطرق أحد إلى ذلك ولا تجرأت كل الحكومات، التي كانت تراسل إسرائيل سرا وتقترح حلولا غير جدية، على التقرب من موضوع الجنوب أو محاولة حله بل تبنت تغذية الوحش الذي سيفترسها ونسيت أبناءها البررة فتركتهم أيتاما في حضن جارتها لتحرمهم فيما بعد من حقوق البنوة وتعاملهم بقسوة الغرباء. ولكن النائب الجميل وأمثاله من اللبنانيين الذين يشهدون للحق لا يجب أن يخافوا ردات الفعل ولو أن من يسيطر اليوم على الساحة اللبنانية يحمي المجرمين والقتلة لأن الكلمة الحرة هي مفتاح كل الحلول وهي سلاح أمضى من كل الأسلحة ولن يقدر الطغات على لجم الأفواه إلى ما لا نهاية وما نراه من حولنا لخير دليل.

 

*تورونتو/كندا/6/أيلول/2011