الخضوع أم الوجود؟

بقلم/محمد سلام

الاربعاء 11 حزيران 2008

 

مجازر كوسوفو، التي ارتكبتها ميليشيات السيء الصيت سلوبودان ميلوسوفيتش، أنتجت دولة، ولكن بعد مسار بدأ ببحور الدم، ومر بالحماية الدولية والمحكمة الدولية وانتهى بالاعتراف الدولي ... بالدولة.

 

دولة كوسوفو، في القاموس السياسي، هي النتيجة المحققة دوليا لمواجهة السلاح المصوب إلى صدور المدنيين.

 

ودولة كوسوفو، في القاموس الإنساني-الأخلاقي، هي استعادة المجتمع الدولي اعتباره، واحترامه لنفسه، عبر التعويض للضحايا، للمجني عليهم، بحفظ كرامتهم وحماية حقهم في الوجود كبشر لهم حق اختيار نظامهم وقوانينهم وممارسة إنسانيتهم من دون قهر سلاح معاد.

 

مسار كوسوفو هو نقيض مسار التغيير الديمقراطي السلمي المعبر عنه في القاموس السياسي الحديث بتجربة أوكرانيا.

 

وأوكرانيا، بما تختزنه تجربتها من حرص فرقائها على التداول السلمي-السياسي-الديمقراطي-الحضاري-المدني  للسلطة، هي التجربة الوحيدة التي خصها أمين عام "حزب السلاح" السيد حسن نصر الله بذكر تحريمي في آذار العام 2005، راسما معها خط فصل أحمر، أثبت بالتجربة أنه لا يتردد عن حمايته بسلاحه للحؤول دون أي تغيير سياسي-سلمي لواقع موازين قوى السلاح على الأرض اللبنانية.

 

تجربة أوكرانيا كانت النموذج السياسي الذي اختارته قوى 14 آذار للتغيير وإقامة الدولة السيدة الحرة المستقلة التعددية الديمقراطية بعد التحرر من الاحتلال السوري في نيسان العام 2005.

 

خيار 14 آذار استند إلى فرضيتين استطاع "حزب السلاح" بهجومه الذي نفذه في أيار الماضي، وما زال مستمرًا، أن يثبت أنهما غير واقعيتين.

 

الفرضية الأولى: أن الدولة اللبنانية بمفهومها السياسي الواقعي، قائمة وتحتاج إلى تعزيز وجودها.

 

الفرضية الثانية: هي من رحم الفرضية الأولى وتستند إلى "اعتقاد" بأن هذه الدولة، التي يفترض أنها قائمة، لديها قوى رسمية، قانونية، نظامية قادرة على حماية وجودها.

 

في الواقع، أثبتت هذه الدولة بالممارسة السياسية أثناء اجتياح "حزب السلاح" وملحقاته لبيروت السنية في الثامن من أيار الماضي ومحاولته الفاشلة اجتياح الجبل الدرزي بعد قرع طبول قهر الشق الغربي من العاصمة، أنها غير موجودة بواقع انعدام فعلها السياسي، وفشلها في أبسط مهامها، وهي محاولة تأمين حماية مجتمعها. وهذا ما أسقط الفرضية الأولى بالمطلق.

 

الفرضية الثانية، المستندة إلى الاعتقاد بوجود قوى نظامية تحمي المجتمع، سقطت، وأسقطت وما زالت عملية إسقاطها الممنهجة مستمرة.

 

سقطت عندما اعتمدت قيادة الجيش خيار حماية وحدة المؤسسة بدلا من خيار رد الاعتداء عن المجتمع لقناعتها، المحقة ربما، بأن مجرد محاولة الجيش منع اعتداء فئة على فئة سيؤدي إلى انقسام المؤسسة.

 

وأسقطت فرضية حياد الجيش عندما تمردت شريحة من عناصره، بغض النظر عن رتبهم، على قرار الحياد، وشاركت، أيضا بغض النظر عن مستوى المشاركة، في اعتداء "حزب السلاح" وملحقاته على المدنيين، سواء العزل منهم في منازلهم ومؤسساتهم، أو الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد اجتياح "حزب السلاح" في بيروت والجبل. تغطية تلفزيون المنار لمهام "بعض" الجيش هي نموذج واحد فقط عن بعض هذه الإسقاطات التي تحتفظ بها الذاكرة الجماعية للمجني عليهم.

 

الإسقاط الممنهج لفرضية قيام القوى النظامية بحماية المجتمع مستمرة في غير منطقة، وعبر عنها بلياقة موجعة سماحة مفتي البقاع الشيخ خليل الميس في مؤتمر صحافي عقده مساء الثلاثاء في أزهر البقاع مناشدا وقف الاعتقالات التي تطال من "المجني عليهم أكثر من الجناة" في منطقتي سعدنايل وتعلبايا وغيرهما.

 

المفتي الميس عبر، أيضا بلباقة مؤلمة، عن تخوفه من أن يؤدي استمرار ممارسة الإسقاط الممنهج لدور القوى النظامية إلى استثارة فئة عليها.

 

واقعيا، إضطر المفتي الميس إلى عقد مؤتمره الصحافي "الارتجالي" كي لا يصدر بيانا عن الاجتماع الذي عقده مع فعاليات المنطقة في الأزهر 

والذي حفل بالانتقادات للأداء الأمني، وحفل بالمعلومات عما يعد للمنطقة، وحفل بالمطالبة بحماية الوجود.

 

نعم، المطالبة بحماية الوجود.

 

وحماية الوجود، تحديدا، كانت الهاجس الرئيسي الذي حكم أداء رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. ولأن المطلوب حمايته بنظره هو الوجود الدرزي من هجمة "حزب السلاح" وملحقاته، نسق جنبلاط جهوده مع الأمير طلال أرسلان، ولكن مشايخ الطائفة الدرزية قالوا كلمتهم جهارا: طائفتنا لا يصدر منها اعتداء ولا يقع عليها اعتداء.

 

هاجس حماية الوجود الذي عبر عنه المفتي الميس، ووليد جنبلاط، وألمح إليه الدكتور سمير جعجع عبر إصراره على أولوية الأمن، ثم الأمن، ثم الأمن، ثم بحث الاستراتيجية الدفاعية، كما عبر عنه الرئيس أمين الجميل وغيرهم من قادة قوى 14 آذار، معطوفا على المعلومات الموثقة عن نوايا "حزب السلاح" وملحقاته، النظامية وغير النظامية، بالاستمرار في مؤامرة إخضاع اللبنانيين بنيران السلاح والملاحقات عبر نظرية "العلاج الموضعي النظيف" التي أطلقها نائب أمين عام "حزب السلاح" الشيخ نعيم قاسم، تضع لبنان على ... مسار كوسوفو.     

 

"العلاج الموضعي النظيف" الذي وصفه الكاتب إبراهيم الأمين بـ"الجراحة بالمنظار" محاولا تجميل الوقائع الميدانية التي ينفذها "حزب السلاح"، تقودنا حتما إلى يوم يعلن فيه هذا الحزب أنه نفذ "جراحة تجميلية"، من وجهة نظره طبعا، لاستئصال ما لا يريد وجوده على هذه الرقعة الجغرافية المسماة لبنان.

 

مسار كوسوفو الميلوسوفيتشي بدأ تنفيذه الميداني الدموي في الثامن من أيار الماضي، بعدما كانت خطته قد وضعت في الثامن من آذار العام 2005، يوم أعلن السيد حسن نصر الله أن لبنان ليس أوكرانيا.

 

"حزب السلاح" لا يكذب، ولكن على قوى 14 آذار أن تعتمد قاموسا أكثر واقعية وأقل سذاجة، ليس لفهم كلامه فقط، بل لمواجهة أفعاله أيضا ... وحماية الوجود.

 

المسار الذي وضعنا عليه "حزب السلاح" يقودنا، إما إلى الخضوع النهائي أو إلى كوسوفو الدولية.

 

أما الانتخابات المؤتملة، والتي وضع اتفاق الدوحة خارطة الطريق إليها لإعادة إنتاج الطبقة السياسية، فهي بمفهومها الليبرالي-الديمقراطي من ثقافة أوكرانيا التي يحظرها سيد "حزب السلاح".

 

الانتخابات، بمفهوم نظام ولاية الفقيه الذي ينتسب إليه السيد حسن نصر الله، تتم بعد إخضاع المجتمع، وقيام مجلس من الحزب يقرر من يسمح له الترشح للانتخابات.

 

هل يفقه ميشال عون هذه الحقيقة؟ أم ترى أنه يفقهها تماما ويدرك، كما غيره من طوائف أخرى في البقاع وبيروت والشمال والجبل، أن لا طريق له إلى مقعد إنتخابي إلا عبر مجلس من ولاية الفقيه يسبغ عليه نعمة الترشح ويحميه من المنافسة؟

 

الخياران الحصريان المتاحان أمام اللبنايين هما: ولاية الفقية الميلوسوفيتشي أو كوسوفو الدولية.

 

والسؤال الذي يضج بصمت في الوجدان هو: الخضوع أم الوجود؟

 

**عن موقه لبنان الآن