في البلاغة والبلاهة ...

بقلم/محمد سلام

 

موصوفة بلاغة السوريين في اللغة العربية، لكن يبدو أن قاموسهم الرسمي لا يتسع لمفردة واحدة يتيمة هي الدولة.

هذه الدولة هي المفردة الوحيدة التي غابت عن كامل تصريحات وزير الخارجية السورية وليد المعلم في القصر الجموري وحواره مع الصحافيين إثر اجتماعه إلى الرئيس ميشال سليمان.

تحدث المعلم عن علاقات دبلوماسية بين بلدين، وعن زيارات متبادلة بين رئيسين، وبين رئيسي الحكومتين في لبنان وسوريا.

تحدث المعلم عن علاقات بين شعبين، وهذا تطور كبير في المفهوم الرسمي للنظام السوري للبنان الذي كان الرئيس الراحل حافظ الأسد قد وضعه في إطار "شعب واحد في دولتين."

 

لماذا كان الأسد الراحل يعترف بدولتين، ولو لشعب واحد؟

لأن جيشه كان يحكم الشعب الواحد في "الدولتين".

لماذا أتى المعلم على ذكر الشعبين، ولم يأت على ذكر الدولتين؟

لأن نظامه لم يعد يعترف بلبنان دولة منذ فقد جيشه السيطرة المباشرة عليه بانسحابه من الأراضي اللبنانية في 26 نيسان العام 2005.

 

تحدث المعلم عن "القيادتين" اللبنانية والسورية والبحث الجاري بينهما. حسنا. هل يوجد في لبنان قيادة؟

في لبنان قياة الجيش وقيادة قوى الأمن الداخلي. أما الدولة فلها في لبنان رئاسة.

 

هناك في سوريا-الدولة حتما يوجد منصب رئيس في الدستور، ولكن في فكر البعث، الحزب القائد، الرئيس حتما هو القائد. لذلك تشير أدبيات البعث إلى القيادة، متجاوزة أدبيات الدولة .. حتى السورية.

 

البعث يبتلع دولته، فسوريا في ثقافة حزب الأمة الواحدة، هي قطر من مجموعة أقطار عربية يجب أن تتكون منها دولة الرسالة الخالدة ... أي الوحدة مع ملحقاتها.

وعندما لا يقدر البعث على الاعتراف بدولته لأن اعترافه بسيادتها النهائية المحددة جغرافيتها دستوريا سيسقط قيادته القومية التي تقوم بمهمة واحدة، التنيسق بين أحزاب البعث في كل الأقطار لتكوين دولة الأمة الواحدة.

 

بهذا المعنى يكون الأمين القطري للبعث السوري في لبنان تابعا للقيادة القومية لبعث دمشق، إليها يرسل تقاريره الدورية عن التطورات في قطره، لا في دولته.

عندما سيطر جيش النظام السوري على الشعب الواحد في الدولتين، ظل الأمين القطري للبعث السوري في لبنان يراسل القيادة القومية في دمشق، ولكنه أضاف نسخة للمخابرات العسكرية التي كانت تمثل النظام في الدولة الثانية التي يعيش فيها الشعب الواحد.

 

احتفظ المعلم بمفهوم القيادة ولكنه أسقط الدولة، انسجاما مع أدبيات البعث لصالح القطر، على الرغم من أنه لم يأت على ذكره.

سئل المعلم عن اعتصام أهالي المفقودين والمعتقلين في سوريا، فرد بأنه لم يحضر معه "عددا من أهالي المفقودين السوريين في لبنان."

 

تفادى المعلم الإجابة عن مسألة المعتقلين وحصر إجاباته فقط بالمفقودين، ما لا يعني نفيا لوجود معتقلين لبنانيين في سوريا، بل يعني إسقاطا لحق السؤال عن اعتقال. ما يعني أنه يحق للسلطة السورية أن تعتقل باعتبارها تنفذ أوامر القيادة، ولا يحق للبناني أن يسأل عن معتقلين، باعتبار أن الطرف اللبناني ليس دولة، بل شعبا يمكن أن يتساوى في المظلومية مع الشعب السوري فيسأل عن مفقودين لبنانيين في سوريا باعتبار أنه يحق للشعب السوري أن يسأل عن مفقودين سوريين في لبنان. هذا بغض النظر عن التعريف القانوني للمعتقل باعتباره غير الموقوف بموجب آلية قضائية.

 

وتفادى المعلم حتى إدخال موضوع "المفقودين" تحت مظلة قانونية، مشددا على أنه "يتفاعل مع هذا الموضوع بصورة إنسانية".

أما العلاقة مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة فوضعها المعلم في إطار "التعامل بين الحكومتين" وصولا إلى "قاعدة مشتركة لبناء علاقة مستقبلية تقوم على التكافؤ بين البلدين الشقيقين وإيجاد عناصر التكامل التي تخدم مصالح الشعبين".

 

ذلك يعني أنه لن تكون هناك علاقة حتى بين حكومتين، بل "تعامل" وفق مفردة المعلم. والتعامل مفهوم مصلحي يقوم بين التجار، إذا كان محترما، أو بين عملاء أتباع واسياد، إذا كان مخزيا.

 

وعندما سئل المعلم عما إذا كان موضوع ترسيم الحدود مطروحا على جدول البحث لم يجب بنعم أو لا، قال "أهلا وسهلا. لا شيء يمنع ترسيم الحدود آخذين في الاعتبار التداخل السكاني بين القرى الحدودية. هل هذا سيفيد ام لا هؤلاء المواطنين؟ أعرف كثيرا من أبناء القرى اللبنانية يدرسون ويزرعون ويعملون في سوريا، مع ذلك إذا كان لا بد من ترسيم للحدود، أهلا وسهلا".

 

بدأها بأهلا وسهلا، وختمها بأهلا وسهلا بعدما أوقفها المعلم عند محطة "إذا كان لا بد".

 

مفصلية محطة ترسيم الحدود. لماذا؟

لأن الحدود لا ترسم إلا بين دولتين، سيدتين، مستقلتين. أساس الدولة هو الحدود وهو ما لا يستسيغه من يقبل بعلاقات دبلوماسية بين "بلدين وشعبين" اشبه بالأعراف التي تنظم علاقات الرعي بين العشائر.

 

أخطر ما في كلام المعلم هو ما لم يرد فيه، أي تجاهله للدولة.

وأخطر ما في الأسئلة التي وجهت إليه في القصر الجمهوري هو أنه لم يتبادر إلى ذهن أي من الزملاء الإعلاميين ضرورة سؤال المعلم عن العلاقات مع الدولة اللبنانية...!

 

أما "ثقافة المفقودين" التي عممها المعلم فقد ظهرت جليا في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس كتلة "التغيير والإصلاح" ميشال عون بعد ساعات قليلة من زيارة الوزير السوري.

 

المؤلم أن العماد عون لم يستخدم مفردة معتقلين في السجون السورية في مؤتمره الصحافي بعد اجتماع أعضاء كتلة "التغيير والإصلاح".

المضحك أن الموقع الإلكتروني لتيار عون، الذي كان ينقل مباشرة تصريحات عماده، عمد إلى  حذف مفردة "مفقودين" واعتمد مفردة معتقلين.

فهل التيار مع المعتقلين وعماده مع المفقودين؟

 

بلاغة هي فعلا تلك التي اعتمدها المعلم، حتي في تقويم من لا يوافق على المضمون السياسي لكلامه في قصر بعبدا.

أما التلاطم بين المفقودين في الرابية والمعتقلين على شاشة موقع التيار في  تصريح واحد لعماد واحد فما هو؟ إرباك أم ... بلاهة؟

 

الاربعاء 23 تموز 2008

عن موقع لبنان الآن